مع اقتراب العراق من طوي صفحة الموازنة الثلاثية، ودخول عام اقتصادي جديد بلا رؤية مالية واضحة، تتزايد التحذيرات من اتساع التحديات التي قد تهدد استقرار البلاد المالي خلال المرحلة المقبلة.
وفي هذا السياق، جاء تقرير وكالة موديز للتصنيف الائتماني ليعزز المخاوف المتنامية، مشيراً إلى اختلالات بنيوية عميقة تتقدمها هشاشة المؤسسات وضعف الحوكمة والاعتماد شبه المطلق على عائدات النفط، في وقت تلوح فيه في الأفق توقعات بانخفاض أسعار الخام خلال عامي 2026 – 2027، وهو ما يضع المالية العامة تحت ضغط غير مسبوق.
هذه التوقعات القاتمة تتقاطع مع ما يؤكدّه خبراء الاقتصاد، الذين يرون أن العراق يدخل مرحلة حرجة وحساسة قد تشهد اتساعاً في العجز وتزايداً في الدين العام وتباطؤاً في النمو، ما لم تُعتمد إصلاحات مالية جديّة وتُتخذ قرارات حاسمة لمعالجة الاختلالات المتراكمة.
اقتصاد هش ومخاطر متصاعدة
وقد حذّرت الوكالة من جملة تحديات بنيوية تواجه اقتصاد البلاد، في مقدمتها ضعف المؤسسات والحوكمة، إضافة إلى اعتماد المالية العامة شبه الكامل على عائدات النفط.
وقالت في تقريرها عن العراق إن الاعتماد المفرط على القطاع النفطي، الذي يؤمّن نحو 90 في المائة من الإيرادات الحكومية، يجعل البلاد أكثر عرضة لتقلبات أسعار الخام، خاصة مع التوقعات بانخفاض الأسعار خلال عامي 2026 – 2027، الأمر الذي ينذر بزيادة الضغوط على الموازنة وقدرة الدولة على تمويل نفقاتها.
كما أشارت إلى أن تقييم العراق ضمن مؤشر البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG) يقع عند مستوى CIS-5، وهو من أدنى المستويات، ما يعكس “تعرضاً مرتفعاً جداً للمخاطر البيئية والاجتماعية وضعفاً مؤسسياً عميقاً” يسهم بشكل مباشر في تقليص التصنيف الائتماني للبلاد.
ولفت التقرير إلى أن المشهد السياسي المعرّض للتشرذم عقب انتخابات تشرين الثاني 2025 قد يعيد سيناريو التأخير في تشكيل الحكومة وإقرار الموازنة، كما حدث بعد انتخابات 2021، لاسيما وأن الموازنة الثلاثية الحالية تنتهي بنهاية 2025، ما قد يضع البلاد أمام فراغ مالي محتمل إذا تأخر التوافق السياسي.
وتوقعت موديز أن يبلغ العجز المالي في 2025 نحو 7.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، على أن يتسع إلى نحو 9 في المائة في 2026 – 2027 بفعل تراجع أسعار النفط وارتفاع النفقات. كما رجّحت أن يتجاوز الدين الحكومي 60 في المائة من الناتج المحلي بحلول 2026.
وبعد الانكماش الذي سجله الاقتصاد العراقي في 2024، تتوقع الوكالة عودة النمو بشكل متواضع في 2025، قبل أن يتسارع إلى 4 في المائة في 2026 مع تحسن إنتاج النفط.
انكماش اقتصادي وتصاعد للعجز
في هذا الصدد، حذّر أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي من التداعيات الاقتصادية الخطيرة المترتبة على انتهاء عام 2025 من دون إقرار موازنة جديدة، مؤكداً أن غياب الموازنة “يعطّل البوصلة المالية للدولة ويجمّد مئات المشاريع الاستثمارية التي يعتمد عليها النمو الاقتصادي”.
وقال السعدي في حديث لـ"طريق الشعب"، إن استمرار العمل بالصرف الطارئ عند دخول سنة مالية جديدة “يعني تأجيل القرارات الحاسمة والسماح بتمدد الإنفاق الجاري بلا ضوابط”، الأمر الذي يضعف قدرة الحكومة على مواجهة أي تراجع محتمل في أسعار النفط خلال عامي 2026 و2027.
وأضاف أن العراق مقبل على مرحلة حسّاسة "مع توقعات بوصول العجز المالي إلى نحو 7.4 في المائة من الناتج المحلي في 2025، و مع احتمالية ارتفاعه إلى حدود 9 في المائة اعوام 2026 – 2027"، مشيراً إلى أن "غياب موازنة واضحة سيجعل تمويل هذا العجز “أكثر كلفة وتعقيداً”، ويعزز احتمالات التوسع في الاقتراض الداخلي بما يضغط على المصارف والقطاع الخاص ويرفع كلفة الدين العام".
وبيّن أن استمرار هذا المسار "قد يدفع بالدين الحكومي إلى تجاوز 60 في المائة من الناتج المحلي خلال 2026، وهو ما يرفع مستوى المخاطر على الاستدامة المالية على المدى المتوسط والبعيد”.
وتابع أن غياب الموازنة "قد يدفع بعض الجهات التنفيذية إلى الاعتماد على —حلول سريعة— مثل السحب من الاحتياطيات أو الاقتراض قصير الأجل، وهي خطوات توفر سيولة آنية لكنها “تعمّق هشاشة الوضع المالي، وتفتح الباب أمام ضغوط على سعر الصرف وارتفاع التضخم”.
وأشار إلى أن السوق المحلية "شديدة الحساسية لأي اضطراب مالي، وأن أي انقطاع في تمويل الحكومة قد يعرقل سلاسل الدفع للمقاولين والقطاع الخاص، ما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي وربما انكماش في بعض القطاعات".
ولفت السعدي إلى أن "العامل السياسي يعد جزءاً أساسياً من المشكلة، إذ إن الصراع وتأخر تشكيل الحكومة يقللان من قدرة الدولة على إقرار موازنة تستند إلى الاحتياجات الاقتصادية الفعلية”، مؤكداً أن "طول الانتظار ينعكس سلباً على ثقة المستثمرين ويزيد ضبابية بيئة الأعمال".
ورغم ذلك، أكد السعدي إمكانية تجاوز هذه التحديات بشرط "تحوّل الإدارة المالية إلى إدارة فعّالة تعتمد على تنويع الإيرادات عبر إصلاح المنظومة الجمركية والضريبية، وتفعيل قطاع الغاز، وتعزيز الاستثمار في الصناعة والزراعة والخدمات اللوجستية".
وشدد في ختام حديثه على أن "تحسين الحوكمة والشفافية في الإنفاق سيعزز ثقة المؤسسات الائتمانية الدولية، ويمهّد لرفع التصنيف الائتماني للعراق، بما يساهم في خفض كلفة الاقتراض وجذب رؤوس أموال جديدة".
خيارات الحكومة ضيقة
من جانبه، أكد الخبير في الشأن الاقتصادي زياد الهاشمي أن "أحد أبرز الإشكالات في الأداء المالي للحكومة العراقية يكمن في إهمالها اللجوء إلى حلول مناسبة للتعامل مع الضغوطات المالية المتراكمة".
واشار الهاشمي في حديثه لـ"طريق الشعب"، إلى أن "الحكومات المتعاقبة لم تعتمد خطوات مدروسة لضبط وترشيق الإنفاق بشكل تدريجي يحافظ على استقرار الاقتصاد ولا يخلق صدمات مفاجئة".
وأوضح أن هذا التلكؤ المتواصل “فاقم حجم المشكلة وزادها تعقيداً، وقلّص مساحات المناورة أمام الحكومة، ما جعل الخيارات المتاحة اليوم محدودة وصعبة، ولم يترك سوى الحلول المشددة ذات الأثر العنيف على المالية العامة".
وبيّن أن من بين هذه الحلول "تطبيق سياسة تقشفية صارمة تقود إلى تجميد وتقليص واضح لعدة أبواب إنفاق، بما في ذلك الرواتب والإعانات، فضلاً عن تأثيرها المباشر على الإنفاق التنموي والاستثماري.
ورغم قسوة هذه الإجراءات، أكد الهاشمي أنها "تمثل الحل الأنسب للتعامل مع الاختلالات المالية الخطيرة التي يواجهها العراق".
وحذّر من أن "أي تأخير إضافي في تبني هذه الخطوات سيؤدي إلى تزايد المتطلبات المستقبلية نحو إجراءات أكثر شدة وصرامة”، مؤكداً أن "الاستمرار على هذا النهج من دون تدخل فاعل سيضاعف من مخاطر الأزمة المالية ويضيّق خيارات المعالجة بشكل أكبر".