متابعة
تتعرض منشآت النفط والغاز في شمال العراق منذ عام 2024 إلى نمط متصاعد من الهجمات بالطائرات المسيرة، استهدفت مواقع تشغيلية في السليمانية وأربيل ودهوك وكركوك، وأدت إلى تعطّل الإنتاج في أكثر من حقل، وانخفاض حاد في إمدادات الكهرباء، وتوقف عمليات شركات أجنبية تعمل في قطاع الطاقة. ومع تكرار الضربات خلال عامي 2024 و2025، لم يعد المشهد مرتبطاً بحوادث أمنية منفصلة، بل تحول إلى ملف سياسي مفتوح تشارك فيه بغداد وأربيل وواشنطن، مع دخول أطراف غير حكومية تستخدم الطائرات المسيرة كأداة ضغط في الصراع الداخلي.
الحكومة في إقليم كردستان لم تتعامل مع الهجمات بصفة “مجهولة”، بل ذهبت في عدة مناسبات إلى تسمية الجهة المنفذة بشكل مباشر، وأعلنت أن “فصائل مرتبطة بالحشد الشعبي” تقف وراء الضربات، وأكدت أن تلك الجماعات تستخدم المسيرات والصواريخ القصيرة المدى لاستهداف مشاريع الطاقة بهدف تعطيل عمل الشركات وزعزعة الاستقرار الاقتصادي في الإقليم. هذا الاتهام، وإن لم تتبنّه الحكومة الاتحادية صراحة، إلا أنه يعكس إدراكاً لدى أربيل بأن الهجمات ليست عسكرية بحتة، بل جزء من معادلة سياسية يجري فيها استخدام ملف الطاقة للتأثير على موازين القوة بين المركز والإقليم.
الهجمات لم تقتصر على موقع واحد. فمنذ نيسان 2024، استُهدفت منشآت الغاز في السليمانية، ثم تبعتها ضربات على حقول النفط في دهوك وزاخو والشيخان وسرسنك، إضافة إلى مواقع مرتبطة بخطوط النقل والتشغيل في محيط أربيل وكركوك. بعضها أدى إلى خسائر بشرية، وبعضها تسبب بحرائق واسعة، بينما أجبرت هجمات أخرى شركات أجنبية على تعليق أعمالها مؤقتاً. ومع كل ضربة، يتكرر النمط نفسه: تأثير مباشر على إنتاج الطاقة، انخفاض حاد في قدرة التوليد، اضطراب في الشبكات، ثم بيان رسمي من الإقليم يتهم الفصائل المسلحة، في مقابل صمت اتحادي أو تصريحات عامة تؤكد “فتح تحقيق”.
الحكومة الاتحادية أعلنت في أكثر من مناسبة أنها حققت “تقدماً كبيراً” في التعرف على الجهة المنفذة، بينما تحدث مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي عن “معرفة المسارات والجهات”، لكن دون إعلان رسمي يحدد الفصيل أو يكشف الجهة التي تقف خلف التنفيذ. هذا التباين بين موقف أربيل الواضح وموقف بغداد الحذر يفسره مسؤولون سابقون بأنه جزء من “حسابات سياسية” تتعلق بتوازن القوى داخل الإطار التنسيقي، وبالرغبة في تجنب مواجهة مباشرة مع جماعات مسلحة تمتلك نفوذاً سياسياً وانتشاراً عسكرياً.
الهجمات الأخيرة كشفت أيضاً هشاشة البنية الأمنية للقطاع. فرغم المطالب المتكررة من حكومة الإقليم بتوفير منظومات دفاع جوي قادرة على كشف وإسقاط المسيرات، ما تزال المنشآت تعمل من دون تغطية رادارية كافية، بينما يعتمد الإقليم على ترتيبات ميدانية بدائية لا تتناسب مع حجم المخاطر. وهذا الضعف جعل منشآت الطاقة أهدافاً سهلة لطائرات صغيرة، منخفضة الارتفاع، قادرة على الوصول إلى عمق المواقع دون اعتراض.
التداعيات الاقتصادية كانت واضحة: تعطّل الإنتاج في حقول النفط أدى خلال تموز 2025 إلى خسارة تقديرية تجاوزت 200 ألف برميل يومياً، بحسب بيانات رسمية ودولية. أما ضربات الغاز، فكانت آثارها أشد، إذ أدى توقف الإمدادات في بعض الفترات إلى فقدان الإقليم ما يزيد على نصف قدرته الكهربائية. وهو ما انعكس مباشرة على كركوك والموصل، ما جعل الهجمات جزءاً من أزمة وطنية تمتد خارج حدود الإقليم.