اخر الاخبار

لم تكن قضية "اختفاء أو سحب أو تجميد" مبلغ 2.5 تريليون دينار من أموال الحماية الاجتماعية مجرد جدل عابر، بل تحولت خلال أيام قليلة إلى واحدة من أكثر الملفات المالية إثارة للارتباك في العراق، بعدما تكشّفت عبر تصريحات متضاربة صدرت عن أعلى المستويات الحكومية، واختلفت بين وزارة العمل ووزيرها نفسه، ووزارة المالية، ومصرف الرافدين، وهيئة النزاهة، إلى جانب ردود فعل سياسية وإعلامية كشفت حجم التضارب الصارخ بين مؤسسات يُفترض أن تعمل وفق منظومة مالية موحدة وإجراءات محكمة. وهكذا بدأ المشهد يتشكل كقصة واحدة ذات فصول متوالية، تقدم فيها كل جهة رواية لا تشبه الأخرى، حتى صار من المستحيل الوصول إلى إجابة واضحة عن السؤال المركزي: أين ذهبت مليارات الفقراء؟

وفي وقت لاحق يوم امس، أعلن وزير العمل والشؤون الاجتماعية، أحمد الأسدي، عرضه لـ"وقائع" صرف 2.5 تريليون دينار من أموال الرعاية الاجتماعية، أمام هيئة النزاهة الاتحادية.

واكد الأسدي استعداده لأي تدقيق ومراجعة في وزارة العمل ووزارة المالية ومصرف الرافدين، وان الوزارة تعمل بشفافية كاملة.

وأضاف "عرضنا الوقائع أمام هيئة النزاهة وسنعرضها على ديوان الرقابة المالية وفق الأصول".

بداية القصة

وتفجرت الأزمة عندما خرج الأسدي في تصريح متلفز أكد فيه أن مبلغ 2.5 تريليون دينار سُحب من أموال صندوق الرعاية الاجتماعية، وأن الوزارة لم تُبلّغ بهذا الإجراء مطلقاً، بل ذهب أبعد من ذلك حين قال إن الأموال "ضائعة بين وزارة المالية ومصرف الرافدين". بدا الأمر صدمة حقيقية، ليس فقط لحجم المبلغ الهائل المخصص للفئات الأكثر هشاشة في البلاد، بل لأن الوزير نفسه يؤكد أن وزارته لم تعلم بسحب واحد من أكبر الأرصدة الموجودة في حسابات الدولة.

لكن ما حدث بعد ذلك كان أغرب من التصريح ذاته؛ فبعد أقل من أربعٍ وعشرين ساعة، خرجت وزارة العمل ببيان بدا وكأنه محاولة التفاف على كلام الوزير، إذ قالت إن وسائل الإعلام أساءت فهم حديثه.

وأكدت الوزارة أن رصيد الصندوق "موجود رقميًا بالكامل" لدى مصرف الرافدين، وأن الإعانات المخصصة للفقراء تُصرف بشكل منتظم ومؤمّن من الموازنة العامة، ثم أضافت أن حديث الوزير كان في إطار رؤية مستقبلية لتحويل تمويل الإعانات من الموازنة إلى موارد الصندوق.

بدا البيان وكأنه نفي صريح لجوهر كلام الوزير، بل بدا أن الوزارة تحاول تفسير كلامه على نحو مختلف تماماً. فالوزير قال إن الأموال سُحبت، وإنها مفقودة، وإن الوزارة لم تُبلّغ، بينما الوزارة قالت إن الأموال موجودة رقمياً، وإن كل شيء يسير ضمن الإجراءات القانونية.

رواية مختلفة

هذا التناقض فتح الباب أمام وزارة المالية للدخول إلى المشهد، ولكن ليس لتقديم رواية مكملة، بل لرواية ثالثة لا تشبه أياً من الروايتين السابقتين؛ ففي بيان مطول، قالت المالية إن الأموال لم تُسحب إطلاقاً، وإن ما جرى هو "تجميد الحساب" الخاص بالمبالغ.

وأضافت أن الحساب الذي يدور الحديث حوله أُنشئ عام 2015 بهدف تسديد رواتب الحماية الاجتماعية فقط، وأن هناك استخدامات غير قانونية حدثت في الحساب خلال السنوات الماضية.

كما أكدت المالية أن وزارة العمل لم تتابع رصيد الحساب بالشكل المطلوب، وأن عمليات تدقيق أجراها ديوان الرقابة المالية كشفت وجود إشكالات تتعلق بإيرادات وإجراءات لم يتم تحليلها.

وأصرت المالية على أن الأموال ما تزال موجودة ولم تُصرف، لكن الحساب جرى تجميده إلى حين استكمال التدقيقات.

جدل مستمر

وبرغم أن المالية قالت إن الحساب جُمّد، فإن مصرف الرافدين ذهب في اتجاه مختلف تماماً؛ فالمصرف، المعني بإدارة الحساب فعلياً، أصدر بياناً قال فيه إن تصريحات الوزير "غير دقيقة".

وأضاف أن المبلغ الذي يجري الحديث عنه لا يعود إلى "صندوق هيئة الحماية الاجتماعية" أصلاً، بل إلى حساب آخر هو حساب "شبكة الحماية الاجتماعية" الممول من وزارة المالية، وأن الرصيد الفعلي للحساب يبلغ "2,495,921,687 ترليون دينار" بحسب ما ورد في بيان المصرف.

وأكد المصرف أن الأرصدة موجودة بالكامل دون أي نقص، وأنه لم يتلق أي طلب سحب أو تحويل أو استثمار من أي جهة رسمية، ولم يصل إليه أي إخطار من وزارة المالية لإجراء تحويلات بين الحسابين. كما شدد على أنه ليس جهة تشرف على الحسابات، بل ينفذ فقط الأوامر الرسمية التي ترد إليه بموجب القانون.

النزاهة تدخل على الخط

وبينما الأزمة تتصاعد، دخلت هيئة النزاهة على الخط بجرأة أكثر من باقي المؤسسات، فأعلنت أنها باشرت التحقيق والتقصي حول موضوع "سحب 2.5 تريليون دينار" من الحساب. هذه الخطوة بحد ذاتها كانت اعترافًا ضمنيًا بأن القضية تستحق التحقيق، وأن الروايات المتعددة، لم تكن كافية لطمأنة الجهات الرقابية، بل ربما كانت مقلقة بما يكفي لفتح ملف قضائي كبير.

وفي الوقت ذاته، ظهرت شهادة سياسية من النائب السابق رائد المالكي الذي أكد أنه هو من قدّم سؤالًا برلمانيًا إلى وزارة العمل وهيئة الحماية ووزارة المالية، وأن هذا السؤال هو ما دفع الأسدي للتحرك.

وقال المالكي إن الوزير أقرّ بالسحب، وإنه تفاجأ بالأمر قبل شهرين، لكنه لم يكشف الجهة التي ضغطت عليه لفتح الملف. وأضاف أن وزارة المالية أجابت عن جزء من السؤال، بينما هيئة الحماية الاجتماعية لم تقدّم أي إجابة حتى الآن، ما زاد الشكوك حول طبيعة الحساب والجهات التي كانت تتصرف به.

ترافقت هذه التصريحات الرسمية والبرلمانية بردود فعل إعلامية حادة، حيث كتب المحلل السياسي غالب الدعمي متسائلاً: من نصدق؟ الوزير الذي يقول إن المبلغ سُحب؟ أم الوزارة التي تنفي؟ وكيف يمكن أن يُسحب مبلغ بهذا الحجم دون علم الوزارة؟ بينما ذهب الإعلامي محمد جبار إلى أبعد، معتبراً أن وجود ثلاث روايات لملف واحد يدل على "انهيار مهني كامل" داخل المؤسسات الحكومية، وليس مجرد تضارب معلومات.

سردية الفوضى

وبجمع كل هذه التصريحات، يظهر المشهد بوضوح كأنه سردية واحدة لفوضى مالية وإدارية، تبدأ من اعتراف وزير بوجود سحب لمبلغ ضخم، ثم نفي وزارته، ثم رواية ثالثة لوزارة المالية، ورابعة لمصرف الرافدين، وخامسة ضمنية لهيئة النزاهة التي تحقق في احتمال السحب أصلاً. ويتكرر السؤال ذاته في كل مرحلة: من يملك الحقيقة؟

وتزداد الصورة تعقيدًا حين نكتشف أن كل جهة تتحدث عن حساب مختلف: الوزير يتحدث عن صندوق الرعاية، بينما المصرف يتحدث عن حساب شبكة الحماية، والمالية تتحدث عن حساب مُجمّد، والوزارة تتحدث عن رصيد رقمي موجود، والناس تتساءل: كيف يمكن لجهات الدولة ألا تتفق على الحساب الذي يضم أموال الفقراء؟

وفي ظل هذه الفوضى، يبرز سؤال أكثر خطورة: إذا كان المبلغ لم يُسحب كما تقول المالية والوزارة والرافدين، فلماذا تحركت النزاهة؟ ولماذا قال الوزير إنه تفاجأ بسحب المبلغ؟ ولماذا لم تُصدر وزارة العمل تقريرًا ماليًا تفصيليًا يوضح حركة الحساب منذ 2015 حتى اليوم؟ لماذا لا توجد وثيقة رسمية تكشف أين يُصرف المال، ومن يوقع، ومن يراقب؟

إنّ تحليل هذه القضية يكشف أن الارتباك ليس عرضيًا، بل بنيوي. فغياب الإدارة المالية السليمة واضح في تضارب الروايات، وغياب الشفافية يظهر في تفضيل كل جهة إلقاء المسؤولية على الأخرى، وانعدام المساءلة يتجلى في أن أي جهة لم تعلن حتى الآن مسؤوليتها عن الحساب أو عن أخطائه أو عن متابعة أرصدته.

وبين كل هذه الروايات، يبقى تصريح الوزير أحمد الأسدي هو الأكثر خطورة، لأنه جاء من المسؤول الأول عن الصندوق، ولأنه أعلن بشكل مباشر وجود سحب دون علم وزارته. فإن كان كلامه دقيقا فهذه كارثة مالية، وإن كان غير ذلك فهذه كارثة سياسية وإدارية أكبر، لأن وزيرًا في الحكومة يطلق تصريحاً بهذا المستوى من دون امتلاك معلومات دقيقة.

وهكذا، ومع تواصل هذا التضارب، يبقى مصير 2.5 تريليون دينار معلّقًا بين "السحب" و"التجميد" و"الوجود الرقمي"، ويبقى العراقيون أمام مشهد يُظهر حجم الفوضى التي تحكم إدارة المال العام، ويجعل السؤال الأكبر معلقًا بلا إجابة: هل فعلاً سُحبت أموال الفقراء، ومن قام بذلك؟ أم جرى تجميدها؟ أم أنها موجودة على الورق فقط؟ ومن يمتلك الحقيقة داخل هذه المؤسسات المتصارعة في رواياتها؟

حتى اللحظة، لا توجد جهة يمكن أن تجيب بثقة، خاصة وان مصادر "طريق الشعب"، أكدت وجود توجه بالتعتيم على القضية من خلال عدم تخويل أي مسؤول في الوزارات والمؤسسات المعنية بالحديث عن الموضوع وتوضيح الحقيقة الغائبة، والروايات المتناقضة.