كشفت البيانات الرسمية لوزارة المالية أن الإيرادات الكلية في الموازنة الاتحادية للأشهر الثمانية الأولى من عام 2025، بلغت أكثر من 82 تريليون دينار، في حين وصلت مساهمة النفط إلى نحو 90 في المائة من إجمالي الإيرادات العامة، وهو ما يعيد تأكيد الطابع الريعي للاقتصاد العراقي، واستمرار تبعيته المطلقة لعائدات الخام.
وتشير جداول المالية إلى أن الإيرادات النفطية سجلت 73 تريليوناً و821 مليار دينار، مقابل 8.5 تريليونات فقط من الإيرادات غير النفطية، ما يعكس فجوة كبيرة في هيكل الاقتصاد الوطني، وغياب التنوع المالي الذي يفترض أن تشكله قطاعات أخرى كالمنافذ الحدودية، والزراعة، والصناعة.
في المقابل، بلغت النفقات الجارية نحو 73 تريليون دينار، بينها 44 تريليوناً رواتب موظفين، و12.5 تريليوناً للمتقاعدين، و3.7 تريليونات للرعاية الاجتماعية، ما يؤكد استمرار تضخم الإنفاق التشغيلي على حساب الإنفاق الاستثماري.
إنتاج نفطي مرتفع وإيرادات ضخمة
وبحسب تقرير مرصد "إيكو عراق"، فإن إنتاج العراق من النفط خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري بلغ نحو 965 مليون برميل، صُدّر منها 816 مليون برميل، بإيرادات تقارب 73 تريليون دينار، كان أعلاها في شهر آب/ أغسطس الذي شهد إنتاج أكثر من 124 مليون برميل وتصدير 104 ملايين برميل.
هذه الأرقام تعزز من مكانة النفط كمصدر شبه وحيد لتمويل الموازنة، لكنها تطرح في الوقت ذاته تساؤلات جدية حول مدى قدرة الاقتصاد العراقي على مواجهة تقلبات الأسواق العالمية أو أي انخفاض محتمل في الأسعار.
تناقض بين مبيعات الدولار وإيرادات المنافذ
في جانب آخر، أظهر تقرير البنك المركزي، أن مبيعات العملة الصعبة خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025 تجاوزت 47 مليار دولار، بزيادة تقارب 11% عن العام الماضي، إذ توزعت بين 46 ملياراً عبر الحوالات الخارجية، و1.6 ملياراً كمبيعات نقدية.
وفي الوقت الذي تسجّل فيه هذه المبيعات أرقاماً ضخمة تعكس حجم الطلب على الدولار لتمويل الاستيرادات، تشير بيانات هيئة المنافذ الحدودية إلى أن إجمالي الإيرادات المتحققة خلال الأشهر العشرة الماضية لم يتجاوز 2.1 تريليون دينار، مع توقعات ببلوغ 2.7 تريليوناً بنهاية العام المالي.
هذا التفاوت الكبير بين مبيعات الدولار وبين إيرادات المنافذ الحدودية يثير تساؤلات حول كفاءة الرقابة الكمركية، ومدى واقعية الفواتير التجارية التي تُقدَّم للبنك المركزي مقابل تحويلات الاستيراد، وهو ما يعيد الجدل حول ظاهرة الاستيراد الوهمي والتسرب المالي عبر المنافذ.
مخاطر الربع النفطي
ويرى خبراء اقتصاد، أن استمرار ارتفاع نسبة مساهمة النفط في الموازنة العامة يضع العراق أمام خطر ما يُعرف بـ"الربع النفطي"، أي الاعتماد المفرط على مصدر واحد للإيرادات، بما يجعله عرضة للأزمات في حال تراجع أسعار الخام أو تقلص الطلب العالمي عليه.
وأكد الخبير في الشؤون النفطية والاقتصادية أحمد عسكر، أن الوضع المالي والاقتصادي في العراق سيبقى مرهوناً بـ"التقلبات العالمية" في أسعار النفط، مشيراً إلى أن أي انخفاض في الأسعار قد يضع ضغوطاً كبيرة على الموازنة العامة والقدرة على تمويل الخدمات والمشاريع الاستثمارية.
وقال عسكر، إن "الاعتماد شبه الكامل على العوائد النفطية يجعل الاقتصاد العراقي هشاً أمام هذه التقلبات، ما يستوجب اعتماد سياسات مالية مرنة ومخططاً لها مسبقاً، وليس مجرد ردود أفعال آنية".
وأضاف أن "العراق قد يواجه، في حال تراجع أسعار النفط، تحديات تتعلق بتمويل النفقات العامة، واستقرار سعر الصرف، وارتفاع نسب التضخم"، مبيناً أن "المرحلة المقبلة تتطلب إصلاحات حقيقية وجذرية تضمن تحصين الاقتصاد من الصدمات الخارجية".
وأوضح الخبير أن أبرز تلك الإصلاحات تتمثل في "وضع موازنات مبنية على سيناريوهات متعددة لأسعار النفط، وإنشاء صندوق ادخاري أو آلية استقرار مالي لتأمين النفقات عند انخفاض الإيرادات، وتنويع مصادر الدخل عبر تطوير القطاعات غير النفطية، فضلاً عن تعزيز الشفافية في الإنفاق وتوجيه الموارد نحو مشاريع ذات جدوى اقتصادية".
وخلص عسكر الى التأكيد على أن "العراق بحاجة عاجلة إلى سياسات اقتصادية واضحة تضمن استقرار الاقتصاد على المدى القريب، وتمهد الطريق نحو تنويع مستدام يخفف من الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات".
ويحذر المختصون من أن هذا النهج الريعي يُبقي الموازنة رهينة لتقلبات السوق النفطية، ويحول دون تحقيق استقرار مالي واقتصادي طويل الأمد، خصوصاً في ظل ضعف التنويع في الموارد وغياب سياسات فعالة لتطوير القطاعات الإنتاجية.
وتأتي هذه الاحصائيات لتنسف الحديث الحكومي عن رفع المساهمات غير النفطية بتمويل الموازنة العامة، يظل العراق نموذجًا واضحًا للاقتصاد الريعي، الذي يعتمد بشكل شبه كامل على مصدر دخل واحد، وهو النفط. هذا النمط الاقتصادي أحادي الجانب جعل البلاد عرضة للصدمات المالية والاقتصادية.
ويؤكد الباحثون، أن الإصلاح الاقتصادي في العراق يتطلب تنويع مصادر الدخل، وإعادة توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية، وتطبيق سياسات عادلة لتوزيع الثروة، وخلق بيئة تشجع على المعرفة والإبداع بدل الاعتماد على الريع وحده. وإلا فإن الاقتصاد العراقي سيظل هشًا، معرضًا للتقلبات، ويزيد من الفجوات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع.
وفي ظل هذه المعطيات، يرى الخبراء أن التحول نحو اقتصاد مستدام ومنتج، يعتمد على الصناعة والزراعة والسياحة والطاقة المتجددة، أصبح ضرورة ملحة لوقف مسلسل الفقر الاجتماعي، وتحقيق العدالة الاقتصادية بين مختلف شرائح المجتمع العراقي.