في قلب مدينة كركوك، تحوّلت "مدرسة الواسطي" للبنات - وهي صرح تعليمي كان يوماً ما منارة علم – إلى مصدر قلق وخوف، تطوقها أسئلة مرعبة، بعد أن سُجلت فيها إصابات سرطانية خلال السنوات الماضية. في حين تُطمئِن دائرة صحة المحافظة، الأهالي بعدم تسجيل إصابات جديدة، وبأنها تتابع القضية.
وبدأت فصول المأساة بعد 2003، عندما تحولت المدرسة إلى ثكنة عسكرية لقوات الاحتلال. وبعد انسحاب هذه القوات وعودة المدرسة إلى مهمتها التعليمية، بدأت الحقائق المُرة تتكشف، فقد ظهرت حالات سرطانية غير مسبوقة ومُخيفة بين الطالبات والمدرسات، حتى باتت كل نوبة سعال أو شحوب وجه مؤشراً محتملاً لنهاية وشيكة. هذه ليست مجرد حالات مرضية متفرقة، بل هي سلسلة مؤلمة قادت إلى وفاة بعضهن، وحولت أحلام أخريات إلى كابوس يقظة. إذ تُشير بيانات رسمية إلى تسجيل 18 حالة سرطانية في المدرسة عام 2014 وبعده.
لكن إبان الفترة الأخيرة بدأ القلق يتصاعد مجددا حول قضية هذه المدرسة، بعد أن أعيد فتح ملفها من قبل وسائل إعلام ومدونين على مواقع التواصل، ما دفع الأهالي إلى مطالبة السلطات بتوضيح رسمي، وبالتأكد مما إذا كانت المدرسة ملوّثة فعلا بمواد إشعاعية تُسبب السرطان، وفق ما يجري تداوله.
مريم حسين وقصة الوداع تحت التراب!
القصة الأكثر إيلاماً التي هزت الرأي العام، هي قصة الطالبة مريم حسين ذات الـ16 ربيعاً، التي أنهى السرطان حياتها سريعاً. الأم الثكلى، وفي تصريح صحفي موجع، أكدت أن التحليلات الطبية التي أُجريت لابنتها في مستشفى مدينة الطب ببغداد، أشارت إلى تأثرها بـالإشعاعات، وهو ما كان السبب المباشر لإصابتها بالمرض الخبيث.
وتضيف قولها بألم: "كانت مريم نائمة في المستشفى، والآن ودعت الحياة، وانتهت كل طموحاتها وآمالها تحت التراب".
تشكيك في نتائج فحص الإشعاعات
هذه المأساة أثارت حينها تحركاً رسمياً. حيث قدمت مفوضية حقوق الإنسان في كركوك طلباً إلى الحكومة الاتحادية بالتحقيق. وبالفعل، زارت لجنة رسمية المدرسة للكشف عن الإشعاع، لتأتي بنتيجة قاطعة تُفيد بأن البناية خالية منه.
لكن هذه النتيجة تُناقض شهادات حية ومباشرة. إذ ذكرت إحدى المدرسات المصابات بالسرطان (وهي تحمل التسلسل رقم 18 في قائمة المصابات خلال فترة قياسية)، أنها كانت حاضرة يوم زيارة اللجنة، ولم تقتنع بعملية الفحص ونتائجها.
وأوضحت في حديث صحفي أن المنطقة المشبوهة، وهي حديقة أو فناء خارجي كانت قوات الاحتلال قد وضعت فيه مواد حربية، تم صبغ أرضيتها وتحويلها إلى ساحة.
ولفتت إلى انها شاهدت أجهزة الكشف الخاصة باللجنة تطلق إشارات قوية عند الاقتراب من هذه المنطقة تحديداً، ما يدل على وجود إشعاع. في حين أصدرت اللجنة نتائج تُفيد بأن المدرسة "ليست ملوثة بيئياً أو إشعاعياً".
هذا التناقض الصارخ بين شهادة إحدى المتضررات ونتيجة التحقيق الحكومي، يضع مصداقية اللجنة على المحك ويغذي ريب المواطني
دائرة الصحة: لا إصابات جديدة
وفي تصريح صحفي الأسبوع الماضي، نفت دائرة صحة كركوك ما يتم تداوله بشأن تسجيل إصابات سرطانية جديدة في هذه المدرسة، مؤكدة أن ما يجري تداوله هي نفسها الإصابات القديمة.
وجاء التوضيح بعد تداول منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تزعم وجود ارتفاع في عدد الإصابات داخل المدرسة، الأمر الذي أثار مخاوف بعض الأهالي ودفعهم للمطالبة بإيضاح رسمي من الجهات الصحية.
وقال مدير عام صحة كركوك أرجان محمد رشيد، أن "الملف المتعلق بثانوية الواسطي هو موضوع قديم، والحالات المذكورة في التقارير السابقة تمت متابعتها بشكل كامل من قبل الدائرة، ولم يُسجل منذ ذلك الوقت أي ارتفاع أو إضافة لحالات جديدة سواء بين الطالبات أم الكادر التدريسي".
وأوضح أن دائرة الصحة تمتلك سجلات دقيقة تخص الإصابات التي أثيرت سابقاً، وأن فريقاً متخصصاً يتابع حالتها الصحية بشكل دوري، مؤكداً أن "الأوضاع مستقرة، ولم يرد إلى الدائرة أي تبليغ رسمي أو شكوى تتعلق بظهور أعراض جديدة أو حالات إضافية".
وأشار رشيد إلى أن تداول معلومات غير دقيقة على الإنترنيت دون الرجوع للجهات المتخصصة، يؤدي إلى خلق حالة من القلق بين الأهالي والطالبات، داعياً إلى الاعتماد على البيانات الرسمية عند التعاطي مع القضايا الصحية.
وأكد أن "البيانات الحالية تثبت بشكل واضح أنه لا يوجد أي ارتفاع في إصابات السرطان داخل المدرسة".
"حقوق الإنسان" تُجدد نفيها وجود إشعاعات
وفي الاثناء، عادت مفوضية حقوق الإنسان لتُفند ما تم تداوله عبر وسائل إعلام بشأن وجود تلوّث إشعاعي في الثانوية المذكورة، مؤكدة أن المعلومات التي نُشرت "غير دقيقة ومقتطعة من سياقها".
وقالت مسؤولة مكتب المفوضية في كركوك، ضمياء الجبوري، أن "التقارير التي تحدّثت عن وجود إشعاعات في ثانوية الواسطي للبنات غير دقيقة إطلاقاً"، موضحة في حديث صحفي أن "أصل الموضوع يعود إلى عام 2014، حيث تلقت المفوضية حينها بلاغات بوجود نحو 14 إصابة بالسرطان بين مدرسات وطالبات في المدرسة".
وأشارت إلى انه "تم تشكيل فريق مشترك من المفوضية ودوائر البيئة والصحة والتربية عقب تلك البلاغات، لإجراء كشف ميداني شامل على بناية المدرسة، وتبيّن في حينها أنها خالية تماماً من أي تلوث أو نشاط إشعاعي".
السرطان يزحف نحو البيوت المجاورة
ما يزيد الأمر سوءاً هو أن المشكلة لم تعد محصورة خلف أسوار المدرسة. فمع تزايد حالات الإصابة، بدأ الخوف يتسلل إلى البيوت القريبة. إذ ان هناك إصابات ليست قليلة بين الأهالي القاطنين بالقرب من المدرسة، ما يشير إلى احتمال تسرب التلوث الإشعاعي (في حال ثبوته) إلى البيئة المحيطة.
تصريح مديرية تربية كركوك المتكرر بأن "المدرسة خالية" زاد من حالة عدم الثقة، وبدأ أولياء الأمور بنقل بناتهم إلى مدارس أخرى، في محاولة لحمايتهن من خطر غير مرئي.
مُطالبات بتحقيق دولي وتعويضات عادلة
اليوم، يرتفع صوت ذوي الضحايا والاختصاصيين عالياً. مطالباتهم واضحة ومُلحّة، وتصب في نقطة واحدة: عدم الثقة في التحقيق المحلي وضرورة تبني حلول دولية جذرية.
إذ يشددون على أهمية تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة، مزودة بأجهزة حديثة، للكشف عن أي تلوث إشعاعي أو بيئي كامن. كما يُطالبون بإغلاق المدرسة وحجر المنطقة وتطهيرها في حال ثبوت وجود إشعاع، فضلا عن تعويض المصابين وذوي الضحايا.