تشهد مدارس العراق منذ سنوات تراجعاً واضحاً في حضور الإرشاد التربوي، حتى كاد دوره الحيوي المهم يختفي تماماً في وقت تتصاعد فيه السلوكيات السلبية والمنحرفة بين التلاميذ في مختلف المراحل الدراسية، ما يثير قلق أولياء الأمور والمتخصصين في الشأن التربوي.
ويُعد الإرشاد التربوي أحد الركائز الأساسية في النظام التعليمي. ولا تقتصر وظيفته على معالجة المشكلات السلوكية أو النفسية لدى التلاميذ، بل تتعدى ذلك إلى غرس قيم الانتماء والاحترام والشعور بالمسؤولية، وتنمية مهارات التفكير الإيجابي والتواصل الاجتماعي وغيرها. لكن الواقع التربوي في العراق يكشف - حسب متخصصين – عن غياب شبه كامل لهذا الدور، بسبب ضعف الدعم المؤسساتي، وقلّة الكوادر المتخصصة، وعدم وضوح المهمات الخاصة بهذا الدور داخل البيئة المدرسية في عموم مدارس البلاد.
حلقة وصل بين المدرسة والبيت
في حديث صحفي تقول الباحثة الاجتماعية وداد الجميلي: "أدى غياب المرشد التربوي إلى فقدان حلقة مهمة في التواصل بين التلاميذ والمعلمين من جهة، ومن جهة أخرى بين إدارات المدارس وأولياء الأمور"، مضيفة القول أن "المرشد ليس فقط مجرد موظف إداري، بل هو عنصر فاعل ومهم في بناء شخصية التلاميذ وتوجيهها نحو السلوك السوي".
وتلفت إلى ان "هناك مدارس كثيرة تفتقر لوجود غرفة خاصة بالإرشاد، ولبرامج ممنهجة تعنى بسلوك التلاميذ وتحصنهم من المؤثرات الخارجية التي تنعكس عليهم".
ولوحظ في السنوات الأخيرة تصاعد سلوكيات مرفوضة داخل المدارس، منها التنمر والعنف اللفظي والجسدي واستخدام العبارات البذيئة، فضلاً عن تدخين السجائر وأحيانا تعاطي المخدرات. كما لوحظت سلوكيات حديثة مرتبطة بالتكنولوجيا مثل التصوير داخل الصفوف، ونشر مقاطع ساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
معالجة السلوكيات المنحرفة
في السياق، يرى التربوي ياسين المشهداني أن "السلوكيات السلبية بين التلاميذ لم تكن لتنتشر بهذا الشكل لو وجدت منظومة إرشادية فعّالة داخل المدارس"، موضحا في حديث صحفي أن "المرشد التربوي يستطيع كشف شخصية التلميذ، واحتمال وجود ميول خطيرة لديه ومعالجتها مبكراً قبل أن تتطور إلى سلوكيات اجتماعية منحرفة".
ويشير إلى ان "العديد من التلاميذ يفتقرون اليوم إلى الفهم الواعي لخطورة أفعالهم وتصرفاتهم. إذ يتعاملون مع التنمر أو العنف باعتباره وسيلة للظهور وإثبات الذات أو التسلية من دون أن يدركوا أثره النفسي على الآخرين. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز هذه السلوكيات بسبب غياب التوجه التربوي داخل المدارس، وضعف الرقابة داخل الأسرة وخارجها".
وينوّه المشهداني إلى ان "غياب دور المرشد أمر خطير للغاية، له انعكاسات واضحة على سلوكيات الطلبة".
نقص الكوادر وضعف الموازنات
وزارة التربية تؤكد من جانبها أنها تعمل على إعادة تفعيل مكاتب الإرشاد التربوي في المدارس، لكنها تتذرع أحياناً بنقص الكوادر وضعف الموازنات المالية، وعدم وجود تشريعات تنظم عمل الإرشاد، ما يمنع تحقيق تقدم ملموس في هذا المجال. في حين يُطالب متخصصون في علم النفس التربوي بإعادة النظر في البنى المؤسساتية للإرشاد داخل المدارس عبر تعيين مرشدين تربويين مؤهلين أكاديمياً ومهنياً وثقافياً، وتزويدهم ببرامج تدريبية متطورة تتناسب مع التغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية التي يشهدها المجتمع العراقي.
وفي هذا الشأن يقول الباحث جبار المطلك أن "المرحلة الحالية تتميز بانفتاح إعلامي واسع وتحديات متزايدة تجعل إعادة الإرشاد التربوي ضرورة وطنية لا يمكن تأجيلها، خاصة أن المدرسة لم تعد مجرد مكان للتعليم الأكاديمي، بل فضاء لتشكيل الوعي الاجتماعي والنفسي لدى الأجيال بشكل عام".
ويحمّل المطلك في حديث صحفي، وزارة التربية مسؤولية حسن إدارة المدارس وتربية الأجيال وتأهيلها وتحصينها. ويقول أن "أي إهمال للإرشاد التربوي يعني أن سلوكيات التلاميذ ستكون خطيرة في مرحلة النمو الجسدي والعقلي، ما ينعكس سلباً على المجتمع إذا لم تطبق برامج خاصة ويعتمد على مرشدين ذوي كفاءات عالية".
وفي ظل غياب هذا الدور المهم في المدارس، تبقى السلوكيات المنحرفة في تصاعد واضح، ويبقى التلاميذ في مواجهة مباشرة مع مؤثرات خارجية معقدة لا يملكون أدوات كافية للتعامل معها وتلافيها، ما يستدعي تحركاً عاجلاً من المؤسسات التربوية والمجتمع المدني معاً لإحياء ثقافة الإرشاد التي اندثرت في السنوات الأخيرة، وتحويلها من وظيفة شكلية إلى ممارسة تربوية فاعلة.