اخر الاخبار

تسمية النسخة السادسة من معرض العراق الدولي للكتاب بـ "نون" ليست تفصيلاً شكلياً، بل اختيار مشغول بفطنة، ومحمل بدلالة ثقافية تتجاوز الحرف إلى ما يرمز إليه. إنها "نون" المعرفة، و"نون" اللغة، و"نون" المرأة التي أُريد لها أن تبقى في الهامش، لكنها ظلت حاضرة في المتن، تكتب وتفكر وتنتج بصبر ومثابرة. جعل "نون" عنواناً للمعرض ليس زينة ثقافية، بل جزءاً أساسياً من المشهد، واصراراً واضحاً إلى ما يراد استعادته من معنى ودور.

اختيار الكاتبة والمترجمة القديرة "لطيفة الدليمي" شخصيةً للمعرض ينسجم تماماً مع هذا المعنى. نحن أمام كاتبة لم تصنع حضورها بالضجيج، بل بالمنجز المعرفي والسردي العميق وترجماتها الثرية، وباشتباكها الهادئ مع أسئلة العلم والفلسفة والإنسان. تكريمها هنا ليس احتفاءً باسم، بل إشادة بمسار ثقافي عقلاني وتنويري، اشتغل طويلاً خارج الاستعراض، فهي بعيدة عن الشاشات والمهرجانات وبقت غزيرة الإنتاج ثابتت الأثر.

ويكتمل هذا المعنى بالالتفاتة اللافتة إلى تكريم مئة امرأة عراقية في هذا المعرض. مئة اسم لا يجمعها قالب واحد، بل تعكس فسيفساء العراق، تنوعه القومي، وثراءه الثقافي، وجمال تعدده. نساء قدمن إسهامات متميزة في المعرفة، والثقافة، والعمل، والحياة العامة، وحفظت الذاكرة أثرهن رغم محاولات التهميش والإقصاء.

هذا التكريم يستعيد ذاكرة تجاهلتها المؤسسات الرسمية طويلاً، بل وأسهمت في تهميشها. فالدولة، بدل أن تحمي منجز المرأة وحقوقها، ذهبت إلى تعديل (قانون الأحوال الشخصية) على نحو ينتقص من مكانتها القانونية والاجتماعية، ويعيدها خطوة إلى الوراء، في مسعى واضح لتحويلها إلى ملحق، أو هامش، أو رقم ثانوي تُسلب حقوقه بصلافة وبغطاء قانوني.

في هذا السياق، يكتسب حضور المرأة في المعرض معنى مضاداً. لم تُنسَ المرأة العظيمة، ولم يُمحَ أثرها، وكان حضورها في هذا الفضاء الثقافي أساسياً ومحتفى به، أقوى من كل محاولات الطمس والتقليص والتراجع.

وهنا يضيء قول مظفر النواب في ملحمة "بحار البحارين" هذا المعنى بصدقٍ واضح:

(ونون النسوةِ ما نامت أبداً،

نقطةُ نون النسوةِ مما تذرفُ دمعاً مُسحت،

وأتى النونُ هلالاً فوق المركب)

ليست هذه أبياتاً عن حرف، بل عن ذاكرة لا تنام، وعن جرحٍ يُمسح ليواصل الرحلة، وعن "نون" تتحول من وجعٍ إلى دليل. هكذا تُقرأ "نون" المعرض: علامة على معرفة لم تنكسر، وعلى حضور نسوي صبور، قاوم النسيان بالعمل والمثابرة والتضحيات.

تُحسب هذه الرؤية للجهة المنظمة، اتحاد الناشرين ومؤسسة المدى على وجه الخصوص، لأنها تعاملت مع المعرض كفضاء يعيد الاعتبار للثقافة بوصفها ذاكرة حيّة، في وقت تخلت فيه مؤسسات رسمية كثيرة عن هذا الدور، أو أدته بعكس اتجاهه.

"نون" ليس عنواناً عابراً، انما وعداً ثقافياً هادئاً: أن ما أُريد له أن يُنسى، قادر دائماً على أن يعود…(هلالاً فوق المركب).