يُعَدّ تغيّر الذوق العام ظاهرة شائعة في مجال العمارة على مرّ العصور، حيث تنتقد كل مدرسةٍ حديثةٍ سابقاتها بشدّة تصل أحيانًا حدَّ الازدراء. غير أنّ ما تعرّضت له عمارة الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية فاق، بحسب الباحث أوين هاثيرلي في العدد الأخير من مجلة اليسار الجديد، كلَّ التصوّرات، إذ جرت محاولات لتجريدها من أيّ معنى، ووُصفت بأنها "معسكرات اعتقال عمودية"، و"مجمعات سكنية بلا روح"، و"مبانٍ مشوّهة متغطرسة".
ولم يمضِ سوى أقلّ من عقدين من الزمان حتى صارت تلك المعالم المعمارية، بما فيها جدارياتها الاشتراكية، موضعَ إعجابٍ واهتمام، وخضعت لمشاريع ترميمٍ واسعة، وأُعيد افتتاح المرمَّم منها باحتفالات وطنية! كما اضطُرّت جهات كثيرة، كمركز فيينا للعمارة، إلى التراجع عن مواقفها السابقة، معترفةً بأن العمارة السوفييتية كانت مشاريع معقّدةً جدًا، تمتّع المعماريون فيها بهامشٍ واسع من الحرية، وسعت إلى تجسيد قيم المساواة والمجتمع التشاركي، وسجّلت نقلة نوعية في عدد النساء المعماريات المشاركات، بعد أن كان الرجال يهيمنون على أهم المكاتب. وتم التأكيد أيضاً على التعبير الوطني والثقافي في الجمهوريات المختلفة. ولعلّ خير دليل على ذلك تجربة طشقند، عاصمة أوزبكستان، التي أُعيد بناؤها بعد زلزال عام 1966 لتكون رمزًا للنهضة الاشتراكية في الشرق.
ورغم أنّ جهودًا هائلة بُذلت لتشويه التاريخ الثقافي المشترك لشعوب الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وتصوير انهيار التجربة بوصفه "تحررًا من الاستعمار الروسي"، فقد عاد كثيرٌ ممن ساهم في ترويج هذه الترهات للاعتراف بأنّ التداخل والتأثير المتبادل بين ثقافات هذه الشعوب كاد أن يُثمر عن ثقافةٍ سوفيتية لو لم يتم وأدها، واستبدالها بنوع من القبلية الجديدة، التي رهنت تلك البلدان للاقتصاد النيوليبرالي الغربي وجعلتها تابعة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
كما تجرّأت بعض الأصوات على تحليل العمارة "الاشتراكية" باعتبارها نموذجًا معقّدًا يجمع بين النمطية والتخطيط المركزي من جهة، والخصوصية المحلية من جهةٍ أخرى، في محاولةٍ لتكييف المعايير الصناعية مع احتياجات المدن والمجتمعات الجديدة. فجوهر الاشتراكية في العمارة لم يهتم بالشكل الجمالي فقط بل وأمتد ليعكس العلاقات الاجتماعية التي تُنشئ الفضاء وتمنح حقّ السكن للجميع.
إنّ أهمَّ درسٍ تثيره هذه المناقشات الفكرية والسياسية يكمن في التأكيد على أنّ العمارة "الاشتراكية" نجحت في التعبير عن هويةٍ وطنيةٍ حديثةٍ ومستقلة، وفي إخضاع ظروف إنتاجها وتوزيعها لصالح الطبقات المستغَلّة، بغية توفير السكن الملائم بأسعارٍ منخفضة، دون أن تتمكّن أحيانًا من تفادي السقوط في الرتابة أو الخضوع لبيروقراطيةٍ، لم يقتصر تخريبها على العمارة وحدها.
وفي خضمّ الحوار حول إمكانيّة بناء سكنٍ لائقٍ وتخيّل مبانٍ عامّة لعالمٍ أكثر مساواة، يجدر بنا أن نتذكّر أنّ العمارة من أكثر الفنون التصاقًا بالحياة اليومية، لما لها من إحاطةٍ بالإنسان في عمله وسكنه وتنقّله، وبالتالي فهي ليست مجرّد ممارسةٍ جماليةٍ أو تقنية، بل نتاجٌ مباشر للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي تحكم المجتمع. فالمبنى ليس بريئًا، والمدينة ليست محايدة؛ كلاهما يعكسان ويخدمان مصالح القوى المهيمنة التي تمتلك وسائل الإنتاج. ولهذا، فإن العمارة التي ينشدها اليسار ليست بالضرورة شكلاً محدّدًا أو طرازًا بعينه، بل رؤيةٌ مغايرة للعلاقة بين الفضاء والعدالة؛ إنها دعوةٌ إلى بناء عالمٍ تُوجَّه فيه القدرات التقنية والإبداعية نحو تلبية حاجات الجميع، إنها تحرير الحجر والتصميم من منطق الربح إلى ثقافة المساواة. ومن هنا، يمكن تقدير الهوة الشاسعة بين الإعمار في بلادنا، وبين معالجة المشاكل التنموية المعقدة التي تواجه المجتمع، وخاصة فيما يتعلق بأزمة السكن وشبكة المواصلات!