يبدو اننا – من فرطِ التقدمِ الحضاري – قرّرنا أن نحوّلَ شوارعَنا الرئيسةَ إلى متاحفَ مفتوحةٍ لمنتجاتِ البلاستيك. ما أن تدخلَ الطريقَ حتى تستقبلك العلبُ المعدنيةُ وقناني الماءِ والعصيرِ الفارغةِ مصطفةً على جانبيه، زرقاءَ صفراءَ بيضاءَ واخترْ ما شئت من الألوانِ!
أما الأكياسُ – بين متناثرةٍ ومتطايرةٍ وعالقةٍ بعجلاتِ سياراتٍ - فتبدو كأنها قصاصاتُ زينةٍ بعد حفلةٍ ضخمةٍ، اسمُها "اللامبالاة"!
المميزُ في الأمرِ هو بقايا الطعامِ. تبدو مصطفةً بعنايةٍ هندسيةٍ. إذ لا يقوى الهواءُ على تطييرها.. طعامٌ متفسخٌ، ولك أن تتخيلَ الرائحةَ وأعداداً من الكلابِ السائبةِ منجذبةً نحوها، وأخرى لم تلحقْ، دهستها السياراتُ وبقيَت جثةً هامدةً على الإسفلت، بينما دماؤها تتلألأ قانيةً تحت ضوءِ شمسِ الظهيرةِ!
ولأننا سريعو النسيان، لا نرضى أن تعودَ معنا أيُ ذكرى طريقٍ إلى البيتِ. نرمي كلَ شيءٍ من نافذةِ السيارةِ: القنينةُ، الكيسُ، المناديلُ، وحتى الحياء نرميه في المحصلةِ!
عمالُ النظافةِ، أولئك الجنودُ المنسيون، يجرْون خلف سياراتِنا وكأنهم في ماراثون غيرِ عادلٍ، يحاولون جمع ما يتساقطُ من أيدينا وأفواهنا ونحن نواصلُ الرميَ بثقةٍ، لعلّنا ننتصرُ في أولمبيادِ التزبيلِ!
لا بأسَ: البلديةُ من واجِبِها تنظفُ، وإن لم نرمِ النفاياتِ على الأرضِ، ستنتفي الحاجةُ إلى واجبِها هذا!
هو ذا ما يراه البعضُ، وكأنّ الشارعَ غرفةُ ضيوفٍ، وعمّالَ النظافةِ خدمٌ يُنظفون وراء ضيوفِهم كلَ يومٍ لـ"يحللوا خبزَهم"!
الطريفُ، كثيرون منا يغضبون حينما يصف أحدهم مدينتنا بأنها "وسخة": "عيب! مدينتنا جميلة نظيفة برّاقة". ثم نفتح نافذة السيارة ونرمي قنينة ماء!
يا سادةَ، الحقيقةُ بسيطةٌ ومحرجةٌ: الشارعُ لا يتحوّل إلى مزبلةٍ من تلقاءِ نفسِه، هناك يدٌ بشريةٌ مُبدعةٌ، تمتلكُ دقةَ تصويبٍ عاليةً، وشغفاً غريباً بالتخلصِ من النفاياتِ فوراً في غيرِ أماكِنها!
نحتاجُ إلى شيءٍ ضروريٍ: نحملَ نفاياتِنا معنا بدلاً من نثرها على الأرصفةِ والشوارعِ. فليس من حقِ أحدٍ أن يتمنّى العيشَ في مدينةٍ نظيفة وهو يتصرّفُ كأنه يعيشُ في مكبٍ مفتوحٍ!
إذا لم يتيقّظْ فينا ضميرٌ حيٌ وذوقٌ إنسانيٌ، سيواصلُ عمّالُ النظافةِ إنقاذَ ما يُمكن إنقاذُه، وسنبقى نحن نمارسُ رياضةَ "الرميةِ الحرةِ" من نافذةِ السيارةِ، وفي الوقت ذاتِه نستغرب: لماذا يدّعون بأن مدينتنا وسخةٌ؟!