في كلِ مرةٍ تُعلن فيها الحكومةُ إجراءً أو "خطةً" للسيطرة على تلوّثِ الهواءِ في بغدادَ، يخرجُ الكبريتُ من أطرافِ العاصمةِ وينفثُ أدخنتَه السامةَ بصورةٍ أنشط، وكأنه يقولُ واثقاً ساخراً: يا حكومةَ قولٍ بلا فعلٍ، حاولي معي مرة ثانية!
المشهدُ محفوظٌ في الأذهانِ، لا بل في الأنوفِ والأعينِ: دخانٌ رماديٌ، أناسٌ مُختنقون بين من يجري باحثاً عن هواءٍ نظيفٍ، ومن يهرعُ إلى المستشفى لإنعاشِ رئتيه، بينما المسؤولُ يُعلن مجدداً جملتَه المُعلّبةَ التي حفظها الجميع عن ظهرِ قلبٍ: الوضعُ تحتَ السيطرةِ، شخّصنا المُخالفاتِ ولدينا إجراءاتٌ رادعةٌ!
ورَغمَ ذلك، يواصلُ الكبريتُ تخييّمَه على شوارعِ العاصمةِ مُتحدياً الجميعَ، مُتباهياً بتفوّقِه على من تبوّأوا مناصبِ مُكافحتهِ!
المفارقةُ هي أن هذه الأزمةَ لا تختلف كثيراً عن غيرِها. ففي العراقِ، كلُ الأزماتِ، من النفاياتِ إلى الكهرباءِ إلى الماءِ، الهواءِ، التعليمِ، الصحةِ، البطالةِ، السكنِ، وما إلى ذلك.. كلُ الأزماتِ تسيرُ بالخطواتِ الواثقةِ نفسِها، ويُردُ عليها بالتصريحاتِ الاستهلاكيةِ المحفوظةِ ذاتِها: سنتخذُ اللازمَ.
واللازمُ، كالعادةِ، لا يُتَّخذ!
الحالةُ الكبريتيةُ ليست استثناءً، هي مجرّدُ فصلٍ من مسلسلٍ طويلٍ مأزومٍ: خطرٌ يتكررُ، حكومةٌ تتفاجأُ، لجنةٌ تُشكَّلُ، بيانٌ يُذاعُ، ثم يعودُ كلُ شيءٍ كما هو.. صيرورةٌ لانهائيةٌ.. كأنّ أزماتَنا تشتغلُ على تقنيةِ التدوير!
أما العاصمةُ، وقد قفز تلوّثُ الهواءِ فيها إلى المستوى الأعلى "الرقمُ البنفسجيُ"، لا تزالُ تجلس تحتَ الدخانِ، تفركُ عينيها وتغسلُ أنفها، بماءٍ ملوّثٍ أيضاً، وبينما تستمعُ إلى تصريحاتِ المسؤولين، يواصلُ الكبريتُ غاراتِه، ليُثبتَ أن الرائحةَ أقوى من الخطابةِ!
المُضحكُ، هو أن أزمةَ تلوّثِ هوائِنا تتناقلها وسائلُ إعلامٍ دوليةٌ، وتشخّصُ أسبابَها، فيما لا تزالُ الحكومةُ باحثةً عن الجهةِ المسببةِ.. ماذا لو كانت مُتنفذة؟! - البعض يسألُ!
أقولُ، ان الطفلَ الذي يلعبُ قربَ المطمرِ "مثلا"، يعرفُ الأسبابَ أكثرَ من الحكومةِ، والحكومةَ ربما تعرفُ ذلك أيضاً. إن عرفتْ وغضّتْ البصرَ، فتلك مصيبةٌ، وإن لم تعرفْ فتلك.. ضع ما شئتَ أيها القارئ!
في النهايةِ، قبل أن نبحثَ عن خطةٍ لإنقاذِ البيئةِ، يتوجب علينا وضعُ خطةٍ لإنقاذِ الحكومةِ.. الكبريتُ انتصرَ في كلِ الجولاتِ، ولا تزال صولاتُه مُستمرةً.. تدربيْ جيداً أيتها الحكومةُ.. تدربيْ.. أحدُهم قال: "خَزّيتونا"!