اخر الاخبار

تعتمد شرعيةُ الانتخابات ومدى قدرتها على إحداثِ تحوّلٍ ديمقراطي على أربع قواعد: ضمانِ التداول السلمي للسلطة، ووجودِ مجتمعٍ مدني وحياةٍ حزبيةٍ حقيقية، وتوفّرِ قدرٍ من الحرية الثقافية والاقتصادية، واعترافِ أكثرية الناس بنتائج التصويت واطمئنانِهم لها. فهل يمكن، على ضوء ذلك، أن تكون هناك مصداقيةٌ للانتخابات التي تجري في بلادنا؟

تعدّ القاعدةُ الأولى الانتخاباتِ ديمقراطيةً إذا ما ضمنتِ الوصولَ إلى السلطة عبر منافسة عادلة وبشروط متكافئة، وأخضعتِ الحاكمين للمحاسبة، وألزمتْهم التشاورَ مع المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، وحدّدت آلياتِ مغادرةِ السلطة، ومنعتِ اللجوءَ إلى العنف للمحافظة عليها أو استعادتها. وتبدو أيُّ قراءةٍ سريعةٍ لمجريات الدورات الانتخابية، كافيةً لإثباتِ غيابِ هذه المعايير؛ فالمتنفذون، بما نهبوه من المال العام، وما امتلكوه من سلاحٍ منفلت، وما حظوا به من دعمِ محتلّين مختلفي السُّحن، كانوا قادرين دومًا على تغيير آليات توزيع المقاعد متى شاءوا، والتغوّلِ على الدولة وهويتها الوطنية، والترويجِ لأنفسهم كحماةٍ للهويات الفرعية التي لا تُصان إلا بتقاسم السلطة واعتمادِها أساسًا للمشاركة السياسية، ملغين بذلك مبدأي تكافؤ الفرص وحيادِ مؤسسات الدولة، ومحوّلين التنافسَ السياسي بين البرامج الحزبية إلى توافقيةٍ تنشر الفسادَ والزبائنية، وتقيّدُ التعددية، وتعيقُ عمليًا قيامَ معارضةٍ حقيقية، وتُغيّبُ بالتالي شروطَ التكافؤ والمحاسبة والتشاور. وإذا كان البعض فخورًا بتوفّر المستلزمات الثانوية والشكليات، صار من المهمّ تذكيرُه بمفارقتَي اختيارِ أعضاءِ المفوضية عبر المحاصصة بين الإقطاعيات الحاكمة، وإحلالِ قوى مراقِبةٍ محلّية ودولية، شكلية أو مسبقة الصنع، محلَّ قوةٍ ذاتِ مصداقية تُزكّى بها مجرياتُ العملية.

وبدلًا من وجود مجتمعٍ مدني فاعل وحياةٍ حزبيةٍ حقيقية، كما تشترط القاعدة الثانية، أدّت هيمنةُ الفئات البيروقراطية والطفيلية، ولصوص بياقات بيضاء، وبقايا الإقطاعيين، وشيوخُ "التسعينيات"، إلى ضبطِ إيقاعِ الصراع السياسي وإضعافِ الحياة الحزبية والمؤسساتِ الدستورية، التي استُغِلّت لإصدار تشريعات تُقونّن الاستبدادَ وتفرضُ التصوّراتِ الأيديولوجيةَ لهذه الفئات، وتساعدُها في الاستحواذ على المنظمات المدنية، وفي تسفيهِ الديمقراطية وتنفيرِ الجموع منها ومن النشاط السياسيّ برمّته، وتشكيلِ إقطاعيةٍ سياسيةٍ بديلة، لا يمكن أن تكون، بأي حالٍ من الأحوال، طرفًا جادًا في عملية التحول الديمقراطي.

وجراء افتقادِ البيئة الانتخابية إلى القدر المطلوب من الحرية الثقافية والاقتصادية، غابت القاعدة الثالثة؛ فبعد عقودٍ من التخلف، تعاونت خلالها الدكتاتوريةُ والحصارُ والاحتلالُ على إعاقة تبلور الوعي الوطني وتشويهِ ووأدِ فكرةِ المواطنة، تحوّل النظامُ السياسي إلى جهازٍ لتأمين السلطة والثروة للتكتلات الطائفية والقومية المتحالفة سرًّا والمتصارعة في العلن، وأهمل عمدًا مسؤوليته عن حماية المجتمع، فتفشّت الأميةُ وتخلّفت العمليةُ التربوية، وسيطرت الإقطاعيّات على وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية، وسخّرتها للتجهيل ولتأجيجِ مشاعرِ التعصّب القومي والطائفي والعشائري، وكبحِ مسار التحديث، حتى بات الكلام عن الحرية سفسطةً لا معنى لها. كما جرى تكريسُ رأسمالية الدولة الريعية التي شجّعت النشاطاتِ الطفيلية، وخرّبت الإنتاج الزراعي والصناعي، وأعاقت تحقيقَ التنمية، مما تضاعف معه عجزَ الموازنة، وزادت البطالة، وأُهدرت طاقاتِ الشباب، واشتدّ التباينُ الطبقي، وانحدر مستوى معيشة الملايين إلى ما دون خط الفقر.

ولعلي لا أجدُ تصديقًا لغياب القاعدة الرابعة أفضلَ من عزوف ثلثَي العراقيين عن التصويت، بسبب عدم ثقتهم بنتائج الانتخابات أو بقدرتِها على إحداث التغيير الذي يطمحون إليه.

وأخيرًا، أرى في الأتباع، ممّن وُعيُهم لم يولد بعد، يصفون الانتخاباتِ بالأعراس الديمقراطية، ما قاله فيهم الحلاج (ما أضن الطريقَ على مَن يظنّ أنه على الطريق)، فما جرى لم يكن سوى كبتِ شعبٍ محرومٍ وحسرتِه على أحلامه المؤجّلة في الحرية والعدالة.