كانت انتفاضة تشرين لحظة وعي كبرى في تاريخ العراق المعاصر، أطلقت طاقات شبابية هائلة، وأنتجت خطاباً وطنياً جديداً تجاوز الانقسامات الطائفية والمناطقية. لكنها، مثل كل حركة اجتماعية واسعة، لم تقتصر على الأوفياء المضحّين، بل أظهرت أيضاً وجوهاً قدّمت نفسها كأصوات مستقلة، ثم ما لبثت أن وجدت طريقها إلى صفوف القوى المتنفذة، لتتحول إلى جزء من المنظومة التي كانت هدف الاحتجاج.
هذا التحوّل لا يمكن النظر إليه بوصفه اختلافاً طبيعياً في الرأي أو مراجعة فكرية مشروعة. فالمراجعة تتم داخل حدود المبدأ، أما الاصطفاف مع الطغمة التي عصفت بالبلاد وبددت مواردها فليس اجتهاداً، بل خيانة للضمير. هنا تكمن خطورة الانتهازية: فهي ليست إعلان ولاء مباشر كالمرتزقة، ولا اندساساً عابراً يُكشف سريعاً، بل هي قدرة على الاختباء طويلاً خلف خطاب الوطنية حتى تنال الثقة، ثم توظف هذه الثقة لاحراز مكاسب فردية.
تعكس هذه الظاهرة نمطًا أعمق في الحياة السياسية العراقية ما بعد 2003، حيث تُختزل السياسة في مفهوم الغنيمة، ويُختزل المبدأ إلى أداة للعبور. وهذا نمط ليس محليًا وحسب، فقد شهدت مجتمعات أخرى ما بعد التحولات الكبرى انتقال بعض النخب من مواقع المعارضة إلى الاصطفاف مع الأنظمة الشمولية. والفارق أن تشرين، بوصفها حركة احتجاج سلمية، سرّعت كشف هذه المفارقة وفضحت هشاشة الخطاب الذي يتزيّن بالقيم الوطنية، فيما يتهيأ للانخراط في المنظومة نفسها.
لكن الأهم أن الانتهازية، على خطورتها، لا تمس جوهر التجربة التشرينية. بل لعلها واحدة من الديناميكيات الداخلية التي ترافق كل حركة اجتماعية كبرى. فهذه لا تنتج كتلة متجانسة من المخلصين وحدهم، بل تكشف أيضاً عن حضور المتسلقين والانتهازيين. غير أنّ هذه التناقضات لا تضعف التجربة بقدر ما تسهم في صقل وعي المجتمع، إذ تمنحه قدرة متزايدة على التمييز بين من يلتزم بالمبدأ ومن يوظّف الخطاب لمكاسب شخصية.
لقد صار العراقيون، بعد تشرين وبفضل تجربته، أكثر وعياً بعدم كفاية رفع الشعار، وبأن الموقف يُختبر في لحظة الاصطفاف: إما أن تبقى في صف الوطن، أو أن تتحول إلى أداة بيد من صادر الوطن.
أن التغيير لا يمكن أن يتحقق بالأدوات نفسها التي صنعت الأزمة. ومن اصطف مع قوى الفساد لا يمكن أن يكون جزءاً من الحل. فالشرعية تُبنى على المصداقية، والمصداقية تقتضي ثباتاً في الموقف لا تبدّلاً بحسب السوق السياسي. وهذا ما أدركه جيل تشرين، الذي لم يعد يكتفي بالشعارات، بل يقيس صدق المواقف بمدى اتساقها مع قيم التضحية والعدالة.
لذلك، يمكن القول إن الانتهازية ليست قدراً محتوماً، لكنها خطر دائم يرافق كل محاولة للتغيير. ورغم ذلك، سيبقى التاريخ أميناً في فرزه: يحفظ وجوه الشهداء الذين قدّموا حياتهم بلا مقابل كرموز للوطنية، ويترك أسماء الانتهازيين مجرد ظلال باهتة في قوائم المتنفذين، بلا أثر ولا قيمة. وبهذا المعنى، تُفضح الانتهازية وتزول، بينما تبقى تضحيات تشرين والوعي الذي ولّدته، الركيزة الحقيقية لأي مستقبل تغييري.