اخر الاخبار

ماهي المعايير التي يمكن من خلالها تحديد "المحتوى الهابط"؟ ومن الجهات التي تملك أهلية تفسير هذا المحتوى؟ وهل هناك مرجعية قانونية تفترض طبيعة العقوبات التي تناسب ما هو خلافي في المحتوى؟

هذه الاسئلة تتطلب مقاربة نقدية، علمية وقانونية لمفهوم المحتوى، ولما يجعله لا يتقاطع مع الحق الاخلاقي لحرية التعبير عن الرأي والموقف. فبقدر اهمية هذه المقاربة، فإن ما يجري في واقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي من تداخلات معقدة، جعلت من مفاهيم الحرية والحق والمواطنة والعدالة ازاء تحديات كبيرة، تتبدى من خلال ازمة تداول تلك المفاهيم، وعلاقتها بعمليات التشخيص والتقويم والنقد، وببيان الرأي فيها، والحكم حولها، فضلا عن ما يحوطها من التباسات تخص واقعية استخدامها، وفاعليتها في تنشيط الوعي النقدي، ومسؤولية هذا النقد في التعاطي مع قضايا اشكالية تخص الحريات العامة، والحقوق الخاص بقضايا التعبير والآراء.

الحاجة الى ترسيم حدود المحتوى تتطلب توصيفا ثقافيا، والى مؤسسات مهنية تُسهم في التعريف بهذا التوصيف على مستوى هوية الخطاب، أو على مستوى تحويل موضوع صناعة المحتوى الى فاعليات اجتماعية وثقافية، والى منابر ذات اطار ديمقراطي، يتناسب مع مشروعية "المجال العام" حيث نجاعة الممارسة النقدية  بوصفها حقا وطنيا وقانونيا وثقافيا، وحيث الارتقاء بالوعي المجتمعي، ليكون فاعلا في اغناء تداوليته السياسية والاجتماعية، وحتى المؤسساتية، وبما يجعل من فكرة "صناعة المحتوى" موضوع يعكس قوة وحقيقة الديمقراطية، مثلما يعكس مدى قوة مؤسسات الدولة في حماية حق التعبير عن الرأي، وحق مواجهة الرثاثة الثقافية التي تحولت الى ظاهرة للبؤس الاجتماعي، ولعمومية استغلال المنابر ووسائل التواصل الاجتماعي، لتسويق " المحتوى الهابط" بوصفه الساذج والشعبوي والبعيد عن المسؤولية.

إن اعادة صياغة السياسات الخاصة بتوصيف المحتوى تتطلب جهدا استثنائيا، ووعيا متعاليا، يضع مسؤولية حماية الحريات متلازمة مع سلامة النظام الاجتماعي، والنظام الديمقراطي، وعلى النحو الذي يعطي دورا فاعلا ل"المجتمع المدني" والمجتمع التعليمي، والمجتمع الثقافي، فهذه المجتمعات يمكن أن تساعد في تأطير مسؤوليات "السلطة" وجهازها الرقابي، عبر اشاعة الوعي الاجتماعي والثقافي، وعبر تعزيز روح النقد ومسؤوليته، وعبر تنشيط وتوسيع الفاعليات الاجتماعية القطاعية وغيرها، بعيدا عن الاكتفاء بربط تقييم "المحتوى الهابط بالجهات الأمنية، وباجراءاتها في تقييم هذا الخطاب أو ذاك، لا سيما في مجال سياسات المنابر، وفي وسائل التواصل الاجتماعي.

إن توصيف "المحتوى الهابط" لا يعني الحديث عن ظاهرته الاجتماعية، والاباحية فقط، ولا عن توظيف شخصيات " هابطة" في تمثيل هذا المحتوى، بل إن الامر يتجاوز ذلك الى المحتوى السياسي والثقافي، فكثيرا ما نشاهد على القنوات الفضائية خطابات لا تقل هبوطا عن الاباحة الجنسية والسلوكية، فالتهييج الطائفي، والتشجيع على الكراهية وعلى العنف وعلى التشكيك بالقيم الوطنية، تعدّ من اكثر مظاهر "المحتوى الهابط" بشاعة وفسادا، كما أن الترويج لثقافات العزل الوطني، وللتمثيل المحاصصاتي والطائفي يؤشر تحويل الخطاب الى "محتوى" رديء، والى ممارسة تجعل من الاعلام واجهتها، واداتها في التسقيط وفي اثارة الخوف والرعب، وفي الترويج لاخبار ومعلومات تهدد الامن الوطني، وتثير النعرات التي تقوض السلم الاهلي.

ما يحدث اليوم من جدل حول مسؤولية "اجهزة الدولة" للتصدّي ل" المحتوى الهابط" يحتاج الى مراجعة موضوعية وقانونية، والى مكاشفة مجتمعية، على مستوى اختيار الشخصيات والمؤسسات العاملة في هذا القطاع، أو على مستوى الصلاحيات التي تمنح لها، وعلى مستوى التنسيق مع مجلس القضاء الاعلى في مجال التنسيق والتنظيم، وفي تدريب القضاة على القضايا التي تدخل في مجال "المحتوى الهابط" وباتجاه العمل على تشجيع الفعاليات الاجتماعية والثقافية على انتاج "المحتوى الايجابي" من خلال فضاءات الاعلام والتواصل الاجتماعي، ومن خلال مؤسسات الجامعة والاندية الاجتماعية والرياضية، فضلا عن ايلاء الجهاز الاعلامي اهميته الفاعلة، عبر الدعم الحكومي، وعبر التنظيم الداخلي، من خلال اختيار الشخصيات المناسبة في تتعرض للتنمر، أو للجريمة الاخلاقية.