اخر الاخبار

عوالم الوجود متشابهة ببعض الصفات، وقد اكتشف الشعر هذه الحقيقة مبكرا، فصار يستعين ببناء عالم بعالم آخر مُشبِّها أو مُستعيرا هذه الصفة أو تلك، حين يكون التشابه حاضرا على الرغم من تباعد العوالم. وعالم المدن وعالم الديموقراطية فيهما من التشابه ما ينفع للتقريب أو حتى العِبْرَة، على الرغم من كون الأول منهما عالما ماديا والثاني فكرة وتصورات.

قبل أن تُقام المدن ويُرفع بناؤها بها حاجة الى شبكة مياه تزرع الحياة، بها حاجة إلى كهرباء تغذي مرافق الحياة وأسباب العيش، وبها حاجة الى شبكة من المجاري، كي لا تتحول المدينة إلى مستنقعات آسنة وقد تغرق بمياه الأمطار أو تجرفها السيول. وبها حاجة الى طرق ومسالك، مصممة لتناسب حجم المدينة وعدد سكانها، كي لا يختنق الناس ببعضهم. وقائمة الاحتياجات من البنى التحتية تطول، بعضها منظور وبعضها مغمور يؤدي وظيفته بصمت. وطبيعة البنى التحتية هذه تتأثر بعوامل عدّة، منها اختلاف طبيعة التربة من مدينة لأخرى، واختلاف طبيعة المناخ العام فيها، فالبيئة الثلجية ليست كبيئة المناطق الاستوائية...

بعض الشبه متحقق بين عالم بناء المدن وعالم بناء الديمقراطيات في هذا البلد أو ذاك. فالديموقراطية- وآلياتها كالانتخابات مثلا- بحاجة إلى بنى تحتيّة شأنها شأن بناء المدن، مثلما هي بحاجة إلى أخذ خصوصية المجتمعات ونُظمها بنظر الاعتبار. فلا يصلح الاستنساخ العشوائي للتجارب، ولن يؤدي إلى نتيجة تناسب حجم الإنفاق على تجربة بلا محتوى، بل قد تكون ضارة حين تمنح شرعية مزيَّفة.

جرت هذا العام 2025م انتخابات برلمانية في العراق، وتكشّفت من خلال الممارسة مجموعة من الاختلالات التي تهدد جوهر الفكرة. وجاءت كاشفة بقوة وبما لا يقبل الشك بأن لا قيمة تُذكر لومضات الوهج الحداثي الفردي الطامحة إلى الارتقاء بالتجربة وإنجاحها، بإزاء هذا السيل من الشعبوية أو قوى المال السياسي والفساد أو قوى التوجّهات الطائفية أو العشائرية..

والتغيير الثقافي وصناعة الوعي يمكن أن يحصل في ظل تحوّلات اجتماعية نسقية لا بفضل جهود فردية، فزمن القيادات الفردية والبطولات الفردية أفل أفولا يثير الشفقة عليه، في ظل واقع تصدّرت فيه التفاهة بكل أشكالها. حتى صارت الشعبوية شعارا لا يخجل منه الناس ولا يخجل منه الطامحون إلى السلطة بكلّ وسيلة، وهم تأكّدوا من أنّه طريق سهل للتدجين، وتأكّدوا من أنّه قد ضيّق الخناق على فكرة النخبة إلى حد كبير، بل تسلل إلى داخلها ليجعلها تتراجع منكفئة بقرار منها.

كشفت الانتخابات هذه أن ممارسات هيمنت حتى صارت عنوانا، وهي لا علاقة لها بأصل فكرة الديمقراطية والحكم الديموقراطي. ممارسات قائمة على المصالح الشخصية الضيقة، من محوّلات كهرباء تُنصب ، أو طرق تُعبّد، أو أنابيب ماء تُمد... كرشوة للناخبين. أو أموال تُدفع لشراء الأصوات بشكل مباشر، أو وعود بوظائف أو بمناصب...

اللوم في كل هذا لا يقتصر على المرشح وجهته الداعمة، بل يقع على الجمهور المُستجيب، أيضا. لكن من هو الجمهور الذي نلومه؟! جمهور شعبوي حُرم من الخدمات والعيش الكريم كي يكون مطيعا في الانقياد ومستعدا لبيع صوته بخدمة، وهو أصلا غير محصّن ثقافيا، ولديه مشكلة في وعيه بذاته الفردية والاعتزاز بقرارها. حتى صار يجد في الانتخابات فرصة للكسب، في ظلّ مرشحين يستثمرون هذا الواقع فيقدمون أنفسهم مصارف جوّاله، وعمّال بلدية يقايضون الخدمة بأصوات الناخبين!

طريق الديموقراطية شاق وطويل ولن يُقطع إلا بتضافر جهود وتوفير بنى تحتيّة، بعضها يتعلق بدور الدولة وطرق الإدارة، وبعضها يتعلق بالوعي الثقافي للمجتمع، وكلا الأمرين مازالا يواجهان تحديات حقيقية. ولا تغيير يرتجى إلّا في ظل تحولات نسقية اجتماعية ثقافية، وهذا يبدأ أولا من دولة قانون عصرية متماسكة وفاعلة، لا دولة أحزاب غايتها الهيمنة على مقدرات الدولة. دولة تعمل على توفير الخدمات للناس كي لا يضطروا إلى مقايضة أصواتهم بمال أو خدمات، فتحرر الإنسان من ذلّ الحاجة، حين يقرر بعض المرشحين ابتزازه. دولة تعمل على توفير سبل تأسيس نسقي يحقق للانتخابات معناها وقيمتها ومستلزماتها الثقافية، فضلا عن واجبها في توفير المستلزمات المادية لتحقيق نجاح تلك الانتخابات، كالأمن وضمان عدم التزوير، والقضاء على الفساد والتصدي للمال السياسي وهو ينصب بازارات للبيع والشراء، وينسج قصصا رائحتها تزكم الأنوف من بيع للأصوات بالجملة... ومجمل هذا الذي يمكن أن تقوم به الدولة هو بعض البنى التحتية للديموقراطية.

ومثل هذه الدولة المدنية الفاعلة بالقانون ستسمح لقوى النخب الثقافية بالفعل من خلال برامج ارتقاء مجتمعي منظمة، تسير بخطى نسقية ولا تعوّل كثيرا على النخب بصفتها الفردية. اشتغال نسقي منظّم يُسهم بشكل فاعل في تأثيث روح المجتمع بقيم ثقافية مناسبة للديموقراطية الحقيقية، وأوّلها صناعة الذات الفردية المعتدّة بوجودها، ومن ذلك أن تعتدّ بصوتها الذي تقدّمه في صناديق الانتخابات. ومن تلك المؤثِّثات أن تشيع ثقافة رفع الحرج الاجتماعي عن فئات الناس الذين لا يجاملون في التصويت ويأنفون من بيع أصواتهم بثمن أو بخدمات. ومن هذه الفئات المثقف نفسه، فالمثقف العراقي في محنة حقيقية وهو يجد نفسه في طوفان من المجاملات والصراعات والتجاذبات الاجتماعية وهو أضعف من الصمود بوجهها، وقد يكون الانسحاب والانزواء حلّه الممكن.. ولن يحميه ويوفر له فرصة الفعل الثقافي المؤثّر إلّا صناعة نسق ثقافي مضاد للنسق الثقافي الرديء المهيمن، كي يكون سياجا يحميه وآلية يعمل من خلالها. فما يصنع فارقا حقيقيا في الارتقاء هو الفعل الناتج عن عمل نسقي منظّم، لا القمم الفردية التي تتوهج فيخنقها عنف النسق المضاد فتنطفئ أو تتوارى.