اخر الاخبار

في فضاءٍ شعريّ باتت فيه  الغربة موضوعًا مألوفًا، يقدم الشاعر عصام كاظم جري في ديوانه  "خارطة الريح" قراءةً مغايرة: ليست غربةً كمكانٍ  تنتقل إليه الذات فتنفصل عن الوطن، ولا هي نفيٌ اصطلاحيّ يندرج تحت مفردات الرحيل والاغتراب التقليدية. الغربة هنا حالةُ تفتّتٍ زمني ومعرفي؛ تجربةٌ لا تكتمل كسفرٍ بل تتحوّل إلى آثارٍ باهتةٍ ورمادٍ يصرُّ الشاعر على كتابته، وإعادة تمثيله، حتى تبدو الكتابة نفسها محاولةً لفك عقدة لم تُحلّ. هذا هو المحور الذي تقوده القصائد وتشتغل حوله الصور في الديوان: غربةٌ مُنشغلة بصنع ذاكرةٍ منكسرة لا تنصهر في خطابٍ واحد. إذا أردنا تلخيصًا لِما يَحمله الديوان، يمكن أن نراه كأنّ الشاعر يكتب من بداية المشكلة لا بعد أن تنتهي؛ هو يكتب داخل الجرح لا خارجه. وهذه البداوة في الكتابة تُنتج شعورًا مزدوجًا: من جهةٍ، يقوّي النصّ حضوره وصرامته الواقعية؛ ومن جهةٍ أخرى، يجعل من الغربة حالةً لازمةً للوجود لا حلًا مؤقتًا يمكن تجاوزه. لذلك، لا نقرأ في "خارطة الريح" مسيرةَ مغتربٍ تقليدية، بل ركام تجربةٍ إنسانيةٍ متكررةٍ تُعاد تمثيلها بلا رَكْيزة أو خلاص. تتجلّى هذه القراءة بوضوح في لُقطاتٍ من الديوان. في مقطعٍ من  سلالمُ المنفى نقرأ: لبسَ الظلامُ خوذةً من بقايا الجثث ووزّع بريدَ المنفى على الصيادين  عنكِ.

هنا تتحوّل صورة الظلام من حالة شعورية إلى أداةٍ حربية خوذة تُلبَس لكنها مصنوعة من بقايا الجثث ؛أي أن وسيلة الحماية تحوّلت إلى شارة موت. هذه الاستعارة تقترح تشابك الحرب والغربة: الظلام لا يحمي بل يستمد وجوده من الموت ذاته. ثم يتحوّل البريد إلى بريد المنفى ، وهو تلاعبٌ لغويٌّ يفكّك وظيفة البريد كوسيلة تواصل حية ليصبح ناقلاً لشظايا الغياب. الصيادون هنا ليسوا صيادي أسماكٍ بالمعنى الحرفي، بل صيّادو ما تبقّى من وجودٍ ومشاعرٍ وربما استعارة لمن يستفيدون من رماد الوجع. والخاتمة المخاطبة عنكِ تُبقِي الخيط العاطفي حياً وسط هذا الخراب، فتُذكّرنا بأن الغربة ليست مجرد فضاءٍ موضوعيّ بل علاقةٌ مُجزّأةٌ أيضاً. الرمز نفسه يتبدّى في قصيدة ( لا نثير اهتمام أحد) : نحن المحمولين على نعشِ الإيمان  لا نثير اهتمامَ أحد نتلاشى كمدن  ونتوحد كتوبةِ  المدن. هنا تأخذ الصورة بعدًا جماعياً؛ الإيمان ليس منقذاً بل نعشٌ يُحمل، ما يعني أن ما كان منقذاً قد مات وذاب داخل الطقس اليومي. الجملة «نتلاشى كمدن» تعبّر عن اندثارٍ لا فرديّ فقط، بل مدنيّ؛ المدن التي من المفترض أن تُمثّل آلافًا من الأصوات تتحوّل إلى سوادٍ موحّدٍ من الاندثار. وإذا قرأنا كتوبةِ المدن  بخلاف القراءة الحرفية الممكنة  فإن المدن تتحول إلى نصٍ مكتوبٍ على جثةٍ لا تُقرأ إلا كبقايا. هذه الصورة تُعمّق فرضية الديوان: غربةٌ لا تُمحى لأن أدوات الوجود الإيمان، المكان، التواصل قد تحولت إلى جثثٍ تُحفظ ولا تُدفن. وفي ومضات الديوان تتبدّى مدينةٌ أخرى، عالمٌ «مقهى» وحقائبٌ صارت جثثًا يحرسها المهاجرون:

"الشوارع  مللُ الدخان  والعالم مقهى  لا بيوت،  ولا حاجة لزنزانةٍ من مراياها،  فالحقائب جثة  يحرسها المهاجرون".

تجعل هذه الصورة من العيش حضوره المؤقت والسطحي؛ المقهى هنا رمز للاشتغال على السطحية والتواصل العرضي، بينما «لا بيوت» تفصح عن انعدام مأوىٍ داخلي؛ والحقائب، التي ينبغي أن تكون وسيلةً للحركة والأمل، تتحوّل إلى جثثٍ  نفاياتٍ متنقلةٍ من حياةٍ لم تُعش. وفي هذا التحول يكمن الإبداع الأكثر ألمًا في الديوان: أن تظلّ الحركة والذاكرة، بدلاً من أن تولّدا استمرارية، مجرد جنازاتٍ صغيرةٍ متحركة.

منهجياً، يلتزم الديوان بقراءةٍ تشكيليةٍ للغربة: لا يعتمد على السيرة لإثبات موقع الشاعر بل يجعل من اللغة والآلة التصويرية مجالًا لإثبات الوجود. وهذا ما يمنح النصّ قوته النقدية؛ إذ يتمكّن من تحويل تجارب تاريخية (حرب، تهجير، فقدان) إلى بنى لغوية تُعيد إنتاج الصدمة، فتطلب من القارئ أن يتعامل مع النص كمشهدٍ حيّ لا مجرد شهادة تاريخية. إن "خارطة الريح" ليس ديوانَ غربةٍ يشرحُ مفردات الرحيل فحسب، بل هو دفترُ ركامٍ يصرخ باسم الذاكرة: اغترابٌ لم يكتمل فصار رمزًا، وموتٌ استمرّ على شكل صورٍ يومية. وهذا الانكسار نفسه هو الذي يجعل من الديوان نصًّا مُلحًّا: لأنه يعلّمنا أن الغربة ليست دائماً مكانًا نبتعد عنه، بل أحيانًا حالةٌ تظلّ تُطاوعُنا داخل كلماتنا، حتى لو حاولت تلك الكلمات أن تُدفن ما لا يُدفن.