اخر الاخبار

جابر خليفة جابر قاص ذو تجربة سردية متميزة منذ أواخر القرن العشرين. تضم أعماله مجموعات قصصية منها "طريدون"، و"الرجل الغريق"، و"زيد النار"، فضلاً عن إلى رواية "مخيم المواركة" و رواية  "نور خضر خان". يتميز نتاجه السردي باهتمام واضح بتوظيف المكان بوصفه عنصرًا محوريًا في البناء الفني للنص، إذ تتجاوز الأمكنة في نصوصه وظيفتها التقليدية لتصبح فاعلة في تشكيل الدلالة والرؤية.

تندرج قصته "كادي كوي" المنشورة في جريدة طريق الشعب(15 تشرين لثاني 2025). ضمن مشروع سردي  يتقاطع بعمق مع الجغرافيا والذاكرة والتاريخ، وهو مشروع كثيرًا ما يستثمر فضاءات المدن والرحلات والعتبات الثقافية لإعادة مساءلة علاقة الإنسان بمحيطه وبذاته. ينفتح النص على طبقات متعددة من الدلالة، يجمع بين أجواء الرحلة وتوترات الاغتراب وتداخل الواقعي بالأسطوري. تكشف القصة منذ سطورها الأولى عن نزوع تأمّلي يربط بين حدث شخصي بالغ الحساسية—وهو  د. حسين سرمك حسن في مدينة يلوا التركية —وبين عالم سردي أكثر اتساعًا يستدعي التاريخ العثماني والهجرات القسرية وظلال الشخصيات التي تتحرك بين الأزمنة والأمكنة.

يتكون النص من بنية مزدوجة متداخلة تقوم على مستويين سرديين متكاملين:

القصة الإطارية : يستعيد السارد، الذي يمثل الكاتب أو قرينه السردي، واقعة وفاة صديقه د. حسين سرمك، ويستحضر ذكراه في رحلته إلى يلوا وكاديكوي. يشكل هذا المستوى الإطار الزمني والمكاني الذي يحتضن القصة المتضمنة.

 القصة المتضمنة:  قصة القاضي سعيد كريتلي والصبي الرومي وظله، وهي قصة ذات طابع أسطوري رمزي يرويها الكهل التركي (أو يُتوهم أنه يرويها) داخل القصة الأولى.

يخلق هذا التشابك تركيبا تعشيقيا (mise en abyme)، حيث تعكس القصة الداخلية القصة الخارجية على نحو مجازي، فيصبح السرد تأملاً في معنى العدل والروح والظل—وكلها رموز للوجود الإنساني والذاكرة والأثر. ومن خلال هذا البناء المركب، تتخذ "كادي كوي" شكل فسيفساء سردية يتجاور فيها الحاضر مع الماضي، والواقع مع التخيل، بما يجعلها مادة خصبة للقراءة النقدية.

 

في القصة الإطارية:

• الكاتب/السارد: الشخصية المحورية التي تمثل الذاكرة والوفاء.

• حسين سرمك: حضور روحي مستمر، يتحوّل من شخصية حقيقية إلى ظلّ رمزي يرافق السارد في النهاية.

• شهد الرحماني ووحيد غانم وعادل الثامري: شخصيات ساندة تؤدي وظيفة الربط بالحاضر.

في القصة المتضمَّنة:

• القاضي سعيد كريتلي: يمثل نموذج العدل الحكيم، في مقابل سلطة الجلاد. رمزه المركزي يتمثل في إلغاء وظيفة الجلاد، أي رفض العنف باسم القانون.

• الولد الرومي: براءة الضحية، الذي يصبح رمزا للمقموعين، وللاتساق الأخلاقي بين الإنسان وظلّه.

• الظلّ: عنصر فانتازي ذو حمولة فلسفية؛ يتجاوز كونه تابعاً جسدياً ليصبح كياناً أخلاقياً وروحياً، يدلّ على النقاء والوفاء والعدالة المتعالية.

يقوم النص على بنية سردية متماسكة تقوم على التوازي بين مستويين زمنيين يتقاطعان بصورة دائرية: زمن الحاضر الذي يكشف عن حالة الاغتراب، وزمن الماضي الذي يُستدعى بوصفه مرجعًا لتفسير الحاضر وتأزمه. لا يتخذ هذا التناوب شكلاً خطيًا، بل يعتمد على تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) التي تفتح منافذ السرد على لحظات من الذاكرة الفردية والجمعية، لتغدو الأحداث سلسلة من المقاطع المتقطعة التي يُعاد بناؤها في ذهن القارئ.

يُقدَّم السرد من خلال راوٍ عليم يملك السيطرة على مجريات القصة، لكنه لا يفرض هيمنته بشكل مباشر، بل يترك للزمن السردي أن يؤدي دوره في الكشف التدريجي عن المعنى. يتحرك البناء السردي بين الحدث الواقعي والحدث الذهني، فينشأ توتر بين التجربة المعيشة والتمثل الذهني لها، وهو ما يعمق الإحساس بالانفصال بين الذات والعالم.

يمتزج الزمن السردي في حركة متداخلة، حيث لا يعود هناك خط واضح بين الزمن الحاضر للراوي والزمن الغابر للقاضي، والزمن اللامرئي الذي يتحرك فيه الظل. يتم الانتقال من زمن إلى آخر بسلاسة لأن السرد يعمل على أساس أن الذكرى قادرة على كسر حدود الزمن، وأن الظلال قادرة على الجمع بين الماضي والحاضر في آن واحد.

يظهر المكان في القصة كائنًا نابضًا وليس مجرد خلفية محايدة. فطنطا وإسطنبول ويلوا وجزر الأمراء وكريت والقسطنطينية، كلها فضاءات متجاورة تحضر في النص بقوة تاريخها وطبقاتها الثقافية. يتجاور المكان الواقعي مع المكان المتخيل حين نقرأ مثلاً أن «ظل الولد من شدة فرحه بإلغاء وظيفة الجلاد قد ارتفع عاليًا، طار فوقهما وسايرهما كغيمة». هنا يأخذ المكان دورًا يتجاوز جغرافيته، فيصبح حاملاً للظلال، مؤطرًا للمشاهد العجائبية، وفاعلاً في تشكيل المعنى.

يتوزع الفضاء السردي بين أماكن مغلقة تعكس الانطواء والعزلة، وأخرى مفتوحة تنطوي على تهديد أو فقدان، مما يجعل المكان يؤدي وظيفة رمزية تتجاوز طبيعته المادية إلى بعده الوجودي. تُسهم هذه الثنائية في تكوين مناخ سردي يبرز البعد النفسي والميتافيزيقي للنص، حيث يتحول المكان إلى عنصر فاعل في توجيه مسار السرد وإيقاعه.

ينتقل المكان في "كادي كوي" بين الشوارع والأضرحة والسواحل، لكنه ينتقل أيضًا بين الأزمنة والحضارات، فيستحضر آثار الصراع التركي-اليوناني والهجرات القسرية التي تلت اتفاقية لوزان، ليصبح جزءًا من البنية السردية لا من سطحها الخارجي.

المفارقات السردية والأبعاد الفلسفية

يتطور السرد عبر مفارقات دقيقة تمنح القصة طابعًا فلسفيًا عميقًا:

المفارقة الأولى: تكمن في أن الظل يُدان بدل صاحبه في محاكمة تبدو عبثية، لكنها في جوهرها تفكك منطق السلطة وتكشف هشاشته.

المفارقة الثانية: تتجلى في حضور الموت الذي لا ينتج غيابًا بل حضورًا مضاعفًا، إذ يصبح وجه حسين سرمك أكثر وضوحًا كلما تقدم الظل في القصة. يقول الراوي: «كان وجه حسين سرمك كلما رفعت رأسي إلى الأعلى رأيته ينظر إليّ من خلال الظل». هنا يصبح الظل وسيطًا بين الحياة والموت، بين الذاكرة والغياب، فيتداخل الشخصي بالأسطوري.

المفارقة الثالثة: ترتبط بالمكان نفسه، فبينما تُرحَّل الجماعات البشرية ويُطرد اليونانيون أو الأتراك من أمكنتهم، يبقى الظل وحده متحررًا من كل طرد، كأنه يملك حقًا وجوديًا لا تمنحه الجغرافيا بل تمنحه الذاكرة.

وتكشف جملة القاضي الشهيرة: «هذا جوعان ولد أيها الحارس! لماذا لم تدعه يأكل أكثر؟»  عن عقل يرفض الظلم حتى حين يُمارس باسم القانون.

في المقابل، يبدو الفتى الرومي ببراءته وخوفه كائنًا هشًا يُلاحق بظله أكثر مما يُلاحق بذاته. فظله «يسير فوقه لا جنبه ولا أمامه أو خلفه»، وهو وصف يجعل الظل كائنًا مستقلاً ذا حضور يفوق حضور صاحبه.

تتشابك في قصة "كادي كوي" عناصر الذاكرة والعدالة والمكان والظلّ في نسيج سردي غني، يجعل من القصة أكثر من مجرد سرد تقليدي.

إنها تأمل في العدالة بوصفها رحمة، وفي الحنين بوصفه شكلًا من أشكال العيش مع الغياب، وفي الظلّ بوصفه صورة للهوية حين تضيع أو تتوه ثم تعود في هيئة كائن وفيّ.

وهكذا يتحوّل النص في نهايته إلى مرثية شفيفة لصديق غائب، وإلى محاولة لإعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والتاريخ والمكان والذاكرة، عبر سرد لا يفصل بين الواقع والأسطورة بل يجعلهما يبرقان معًا في صورة واحدة.