حدث ذلك في السليمانية… المدينة التي تعلّمت أن تدفع ثمن كرامتها بلا تردد، وأن تبقى صامدة بوجهٍ مرفوع. كان الفجر يتسلّل خجولًا على أطراف البيوت، والليل ما يزال يجرّ عباءته الثقيلة بين الأزقة، حين شقّ الصمت صوتٌ معدنيّ قاسٍ. هليكوبتر تهبط واطئة، تخدش بظلّها جدران المدينة، وتنفث من مكبّر الصوت صرخة آمرَة: "أيها المواطنون … يُمنع التجوال منعًا باتًا حتى إشعار آخر. سلّموا الخونة والمجرمين." ارتجف جسدي قبل أن تفتح عيناي وعيهما. كلمة "الخونة" كانت القناع الذي ترتديه السلطة كلما أرادت أن تستر خوفها من أي قلب يجرؤ على الرفض. شعرتُ أن النداء موجَّه إلي وحدي، وأن نبضات قلبي يمكن أن تُفهم كجريمة تستحق العقاب. لم أملك وقتًا للتفكير. أسرعت نحو كومة المنشورات الممنوعة. لم تكن مجرد أوراق؛ كانت شراراتٍ من الحقيقة تكشف وجه السلطة وتذكّر الناس بما سُلب منهم. لملمتها بيدي المرتعشتين، وهرعت إلى الحديقة الخلفية حيث شجرة الرمان العتيقة. حفرت تحت جذورها حفرة صغيرة، وضعت الأوراق فيها بحنانٍ كمن يُخفي أبناءه عن أنياب الذئاب، ثم عدت التراب كأنني أدفن جزءًا من روحي على أمل أن ينهض يومًا. كنت مختفياً منذ سنتين في بيتٍ مهجور يتقاطع مع بيت جيراننا الطيبين. بيتٌ متروك منذ سنين، أثاثه مغطّى بطبقة سميكة من الغبار، وصمته عابقٌ برائحة الغياب، كأنه لا يعرف معنى الحياة. الغرفة الوحيدة التي كنت أستخدمها… كانت تحمل أثر دفءٍ غامض، كأن أحدًا عاش بها زمنًا ثم اختفى. ولأنني كنت أعلم أن العيون تُفتّش في التفاصيل، قلبتُ ملامح الغرفة، ونثرت عليها مظهر الخراب حتى لا يظنّ أحد أن إنسانًا مرّ بها. ثم تسللت إلى المخبأ السري في الطابق السفلي. باب ضيّق مموه ببلاطات تشبه الأرضية لا يزيد عرضه على خمسةٍ وعشرين سنتيمترًا، وطوله خمسون، يفضي إلى فراغٍ بالكاد يكفي لزحف الجسد.
متر واحد ارتفاعًا… متران طولًا… قبرٌ بلا نافذة ولا سماء.
تسللت إليه وكأنني أعبر ولادةً بطيئة نحو عالمٍ بلا هواء. ظهر عند الباب الفتى ذو الملامح الهادئة—ابن الجيران، ابن السادسة عشرة — بعينين تجمعان براءة الطفولة وثقل الخوف. كان يعرف أن هذا البيت مهجور، وأن وجودي فيه يمكن أن يبتلع عائلته كلها في دوامة الانتقام. ومع ذلك أغلق الباب المعدني عليّ، ورتّب فوقه الفرشة والسرير الخشبي ليُخفي أثر المدخل، ثم اختفى… وبقايا طفولته ترتجف على كتفيه. كان حضوره وعدًا بأنني لست وحدي… وأن شجاعةً غير مرئية تحرس هذا القبر الضيق.
توقف الزمن. كل دقيقة تحولت إلى دهْر. وعند الحادية عشرة صباحًا، دوّى انفجارٌ عنيف.
ارتجّ المخبأ وسقط الغبار من السقف كأن البيت ينهار فوقي.
اقتحم رجال السلطة الدار… وقع أحذيتهم الحديدية يهزّ الأرض، وصوت أسلحتهم يطعن السكون.
سمعت صراخهم يأمر الفتى بالإجابة، وسمعت صوته الهادئ يردّ بثباتٍ عجيب… رغم أنه يعرف مكاني، ويقف فوق قبري الإسمنتي مباشرة.
امتد الخوف في عروقي كأفعى.
جفّ حلقي، وضاق صدري، وصارت الرئة تستجدي هواءً لا يأتي.
ولم يكن خوفي حينها من أن ينكشف أمري، فالموت كان يبدو أحياناً خلاصاً من هذا الرعب، بل كان رعبي كله على عائلة الفتى الطيب؛ كنت أعرف أن قبضهم عليّ تعني لهم هدم البيت وإبادة العائلة بأكملها، جزاءً على إخفائي. كلّ شهيقٍ وزفيرٍ مني كان فضيحةً تكفي لقتلي، كأنّ أنفاسي وحدها جريمة تستحق الموت، فكتمتها حتى كادت رئتاي تنفجران. وعندما خفتت الأصوات فوق رأسي، وساد صمتٌ مخيفٌ يوحي بالرحيل، دفعتُ باب المخبأ قليلًا، فتحت شقًا ضيقًا، ابتلعت جرعة هواء، ثم أعدت إغلاقه بسرعة. لم أكن وحدي تماماً في هذه العتمة، ففي الساعة السادسة مساءً، سمعتُ طرقاً خفيفاً على السرير الذي يغطي المدخل. كان هو، الفتى الصغير، يتسلل في صمتٍ يحمل في عينيه بشائر النجاة. همس لي بأن حظر التجوال قد رُفع، وأنهم أعلنوا ذلك في مكبرات الصوت. بساعديه النحيلين، اللذين حملا من الشجاعة ما يفوق الجبال، أزاح السرير والفرشة، وساعدني على الخروج من ذلك القبر الإسمنتي. نظرتُ إليه بعينين دامعتين، أدركتُ فيهما حجم الخطر الذي خاضه مرتين لأجلي، فصمتنا معًا كان أبلغ من آلاف الكلمات. كان جسدي مثقلًا بالغبار، وروحي مثقلة بما هو أعمق من الغبار والتراب. لكن المدينة لم تستقبلني. كانت مشدودة الأعصاب، يقطع صمتها صراخ الرصاص من جهة الحامية العسكرية، وكأن الغروب نفسه يُقاد إلى المقصلة.
لاحقًا عرفت حجم الفاجعة:
شبابٌ أبرياء فرّوا من جحيم الحرب العراقية–الإيرانية… أُعدموا بلا محاكمة. بيوت هُدمت.
عائلات اقتيدت إلى مصير مجهول… اختفوا كأنهم لم يولدوا.
وقفت في ذلك البيت الموحش، أتأمل الجدران التي احتضنت رعبي وصمتي.
ظننت أنني خرجت من المخبأ… لكن الحقيقة أنني لم أخرج منه قط.
مدينة مغلقة ببابٍ من إسمنت الوعود الكاذبة… بلا نافذةٍ تطل على الحرية.