اخر الاخبار

لم ترتد الأبيض الناصع في ذلك اليوم، حيث لم تعلم أن القدر استعجل في رحلتها إلى المجهول، كانت كل العيون تنظر إلى وجهها الصبوح، إلى قامتها الممشوقة، وشعرها المخصل، فالشمس في قريته لامسته وغمرته بأشعتها الذهبية، أما الحضور، التي كانت لا تناسب مخيلتهم...فهم ينتمون الى قرية نائية بعيدة.. وهي من قلب المدينة!!!، ولكنه كان يتمنى أن يحظى بها، وقد باتوا ينتظرون منها كلمة أو حركة أو حتى إيماءة واحدة: لا أقبل.

ولكنها التزمت الصمت المدقع، كأن للسكوت صوت تكلم اليوم ليخبرها بوفاة زوجها ومن دون سابق إنذار. جلست في بيت زوجها تعلوها أحزان فقده وتراودها المغامرة في ظلام الفقد، ومنذ ذلك الحين ومازالت تلتزم الصمت الرحيم بأقسى أنواع المغامرة، أحست أن الوقت قد حان، قلبها ينقبض بشدة، ويعود بها الفكر الى لحظة حاسمة في حياتها، ذلك الهاتف الذي خبرها ...مات زوجك.

هي وأولادها ينزلان من مدخل البيت، الرجال في الباب المشرف على الطريق العام، ينظرون للغادي والذاهب، رأَوها انذهلوا أمام منظرها هل يمكن أن تكون هي نفسها صاحبة الإطلالة البهية، تفوهوا بكلمات لم يحتملها قلبها الذاوي بحب زوجها، صرخت من وجع الفقد،

تلك اللحظة ما أصعبها !…لحظةٌ ،غدت مفصلية في حياتها!…

فكان في داخلها خليط من الخوف والحزن، ونار مستعرة خلفها نبأ أن الله أستدعى زوجها، حينئذ فقط، اضطرت لغلق كتاب مذكراتها وحياتها، وابتسمت… لأنها أمام أخر صفحة فيه، فتوالت عليها ذكريات رحلتها الممتعة موشوحة بين صفحات حياتها.

طوت أيامها بالذكريات، وخبرت نفسها قائلة: لقد عشت قصة حب شيقة، ذقت خلالها حلاوة الحب، ولوعة الحرمان والحنين، الآن تمر الأيام كشريط سينمائي والأحداث تتوالى، منها الحلو وفيها الأقل حلاوة وقد تمر فيها أيضاً أيام كالعلقم .

كان كل يوم له طعمه الخاص وله ظروفه الخاصة وأحداثه ونتائجه وذكرياته ولكن ذلك اليوم الذي أمضيته معه لا أنساه أبداً يوم لا أذكر تاريخه ولكن أخر يوم لنا مع بعض، كان يوم من أيام الخريف .. سرنا معاً إلى متنزه بعيد .. بعيد عن أعين الناس، كم كنت سعيدة معه.... مع ذلك الإنسان الذي شاركني تلك اللحظة السعيدة التي لا تنسى . لقد استمتعنا بالطقس الرائع والمنظر .. والمكان وبالحديث الدافىء كان كل شيء جميلاً. لحظات خلتها دهراً ، تمنيتها ألا تنتهي أبداً .. لأنها قليلة .. وقصيرة كما كل شيء جميل لابد أن ينتهي!؟.. والآن تتساءل...!؟.  بينها وبين نفسها: هل يتذكر ذلك المشوار في اليوم الأخير ..؟ وهل يذكر أو دلف الى مخيلته الآن؟... وهل دونه في مذكراته كما أعتاد أن يدون كل تفاصيل حياته، ..ليبقى هذا الحدث وتلك الرحلة الجميلة ذكرى في خاطره .

إنها ذكريات جميلة، ما زالت تتذكر ذلك المشوار وكأنه اليوم.

قال لها حينها وهو يتناول أساور مميزة وأهداها لها، لتزين يديها عندما كانت معه: حبيبتي .. مع ان أن هذه الأساور إكسسوار عادي ولكن أنا أحب أن أراه دائماً يزين يديك ، حبيبتي... هذا اليوم أراه لا يشبه أي يوم آخر، أنا وأنت نمشي معاً.. نقطع الطرق مع بعضنا، نتسامر نتبادل أطراف الحديث، ونترك في كل مكان ذكرى أو علامة، جلسنا هنا، وكلما مر عاشق مثلنا من هذا المكان يعرف أن حبيبين جلسا هنا، هذه العلامة، وتلك الأيام مرت بسويعات قليلة كحلم صغير .. صغير، لم تتضح معالمه. كان جميلاً وكنا سعداء .. كنا كدفقة فرح يرقص لها القلب، شوقاً وحنيناً للحظة لقاء أخرى .. والآن....صرنا كنسمة دفء تلوح في أفق بارد في ليلة شتاء تساقطت أوراقها ولم يبق منها سوى الذكرى،.. رجعنا بعد هذه التمشية الجميلة إلى البيت، وعدنا لمذكراتنا وهمسات الحياة ومسؤولياتها التي تتدفق كالسيل بتفاصيلها الدافئة، حتى التوهج.

عدت الى رشدي على صوت ينتحب على وحدتي، ينادي من بعيد: وصل جثمان زوجك.

وكل تلك السنين كتبت

صفحات ببضاء في سجل العمر، وما زال وجيب القلب ينبض بحبك الأوحد ويسطره في مذكراتي.