اخر الاخبار

إن الاغتراب الاجتماعي والعزلة التي فرضها كافكا على أبطالهِ كانت ناتجة لعدم الانتماء الكامل للتيارات المجتمعية المختلفة في عصره، وتم تفسيره في اتجاهات مختلفة ومنها، إن المناهج الإيديولوجية والنقدية الاجتماعية تنظر إلى أبطال كافكا على وفق المنظور الماركسي كممثلين لحالة من الاغتراب الاجتماعي، التي هي نتاج أزمة اجتماعية برجوازية رأسمالية متأخرة. أما من وجهة النظر الفلسفية التي تنظر إلى أبطال كافكا فتفسر الدراسات العزلة المجتمعية على أنها عزلة (للذات)، التي تمثلت في شخصية كافكا نفسه، وكذلك القلق الوجودي المتمثل في أعمالهِ وحجم الأزمات التي كان يعيشها. وفي وجهة النظر الدينية لأبطاله.   في روايتة (المسخ)، تعبير عن عدم الانتماء وعزلة البطل تظهر جليا بشكل خاص في فشل أي اتصال بين البطلِ ومحيطه. وفيها يعيش كريكور سامسا عزلة تامة عندما يصبح سجيناً لجسده. وأن حقيقة جسده الفاسد تؤدي إلى عزلته عن عائلته، وهو المحور الرئيس للأحداث في الرواية، وتجد التعبير عن ذلك بشكل الباب الذي يصفه الكاتب في روايته. وفي تصاعد أحداث الرواية يظهر لنا كافكا كيف أستيقظ كريكور ليجد جسده قد تحول إلى حشرة. وأحد جوانب تحوله هو فقدان القدرة على اللغة البشرية. صوته يتخلله عبارة (ليس كثيرا) و (صرير شديد ومؤلم)، مما يجعل كلامه غير مفهوم. في البداية لم يكن يريد الاعتراف بفقدان قدرته على الكلام أكثر من رغبته في الاعتراف بجسده الجديد. وكان يعزي النفس بالفكرة القائلة بأن (التغيير في صوته لم يكن أكثر من نذير بنزلة برد شديدة). وليس من الواضح ما إذا كانت قدرته على الكلام تفشل بشكل كامل منذ البداية أم أنها تفقدها مع مرور الوقت، لأن عائلته تستجيب في البداية للتغيرات الحاصلة على جسده، وفقدانه القدرة على التحاور. وبالتالي فإن ذلك يؤدي إلى استسلامه لذاك التحول الغريب والمتمثل بفقدان القدرة على الكلام، وما يترتب على ذلك من عدم القدرة على التواصل. يفسر سيكفريد دانكلماير غرابة اضطراب التواصل هذا على أنه تدفق تواصل بشري مسدود من جانب واحد. قبل التحول في رواية "المسخ"، كان كريكور يغلق بابه من الداخل. كان الباب وسيلة لحماية خصوصية الإنسان وبالتالي ضمان فرديته واستقلاليته. بعد التحول، فإن الباب تم إغلاقه من الخارج من أجل إبعاد كريكور عن الحياة العائلية. يتأمل كريكور الدور المتغير للأبواب في حياته منذ تحوله: (في وقت مبكر، عندما كانت الأبواب مغلقة، جاء الجميع إليه). أريد الآن بعد أن فتح أحد الأبواب كي أرى الآخرين على ما يرام، ولكن لم يأت أحد ليراني وأصبحت الباب تغلقُ من الخارج.   حاول كريكور في البداية التغلب على مشكلة التواصل. يستمع إلى محادثات عائلته عند الباب، لكن مع مرور الوقت، (لم يعد قادراً على الاستماع بسبب التعب العام). بعد أن تقبلت العائلة حالة كريكور الجديدة، قاموا بفتح الباب للسماح لكريكور بالمشاركة في المحادثات العائلية المسائية. وهذا يوضح الجانب الأحادي الذي يميز التواصل منذ لحظة التحول فصاعدا: يستطيع كريكور الاستماع إلى محادثات الأسرة، لكنه في مكان منعزلٍ ولا يمكن رؤيته من غرفة المعيشة. وبالتالي لا يزال منفصلاً عنهم ولا يستطيع المشاركة في المحادثات بسبب عجزه عن الكلام. ولسوء الحظ فإن حالته تقتصر فقط على جسده المادي، وبقيَّ كريكور يفكر ويشعر ويفهم مثل الإنسان. وهذه الحقيقة كانت غائبة عند عائلتهِ لظنهم بأنه حين فقد القدرة على الكلام، فأنه فقد القدرة على التفكير كذلك، وأنه لا يستطيع فهم الآخرين أيضاً.

وعلى وفق حالته الجديدة لم يعد يٌسمح لأي شخص من الخارج بالاقتراب منه، لكنه هو نفسه لا يستطيع التواصل مع الخارج أيضاً؛ والأسوأ من ذلك أن كل محاولات كسر عزلته لا تؤدي إلا إلى تعزيز عزلته أكثر. وفي أحد الأيام عندما حاول فتح الباب بكلِ ما أوتيَّ من قوة، وحين نجح في ذلك وخرج من عزلتهِ، يصاب كافة أفراد عائلته بالإغماء والشعور بالعداء نحوهِ. وأستقبل والده محاولته للهروب من عزلته، الموصوفة في الفصل الأول، بالنفور العنيف والتوبيخ، فيعود ثانيةً  إلى نفس الغرفة. وفي الفصل الثاني يتساءل كيف يمكنه الاستماع عند الباب. لكن محاولته كان لها تأثير معاكس تماماً، لأنه بمجرد أن تسمع العائلة أي ضوضاء، ويشعرون بإنصات كريكور لهم، يلتزمون الصمت. وفي ذروة الشعور بالوحدة والعزلة، حين يسمع أخته وهي تعزف على الكمان دون أن يتمكن من الاقتراب منها، في محاولة منه لكسر العزلة المفروضة عليهِ قسراً.

وهنا ترمز الموسيقى، كما أسماها الفيلسوف كانط، إلى (لغة الأحاسيس المجردة دون أية مفاهيم). إن عزف أخته على الكمان لتوقظ فيه شوقاً إلى المجتمع الإنساني والأمل في أن يكون ذلك ممكناً بالموسيقى، ومن دون اللغة لتظل هذه الرغبة غير محققة، ولا تزال الآمال مبددة بالعودة إلى (الدائرة الإنسانية).