اخر الاخبار

زرع جدي خضير فينا حب الأراضي الزراعية والبساتين، كان لا يدّخر المال للغد وحين تسيل الدراهم في يديه يركض مسرعا لشراء أرض زراعية أو بستان قريبة من مدينته الحلة، حتى أن أبي وأعمامي وعماتي يسألونه لماذا لا تشتري البيوت والقطع السكنية في المدينة، كان يسخر منهم ويقول لهم المتر الواحد في البساتين يعادل عندي آلاف الأمتار في المدينة. لم يترك لأبنائه سوى بيت صغير في محلة الوردية يبعد أمتارا قليلة عن شط الحلة حشرهم فيه، ذكورا واناثا، وحين يقرأ الحزن واللوم والعتب في عيونهم كان يقول لهم إن تضايقتم وتأزمت نفوسكم في أي وقت، لا عليكم الا الذهاب الى بساتيني المحاذية للمدينة التي لا تبعد سوى مئات الأمتار عن البيت، هناك تطيب النفوس وتجدون الهواء النقي وتسمعون خرير الماء في السواقي وحتى غناء الطيور أجمل وصوتها صادح وعذب تتمايل له الطبيعة طربا. أنا طفل صغير كنت أسمع هذا الكلام من جدي الذي لا يملّ من ترديده على أبنائه وأحفاده كل يوم. توفى جدي وحين شب عودي علمت بأنه ترك لورثته بساتينا عامرة تقدر بمئات الدونمات في منطقتي كريطعة والعتايج لا تبعد عن مركز المدينة الا شمرة عصا كما يقول المثل الشعبي، كنا نذهب اليها مشيا على الأقدام وهناك حقا تتفتح القرائح بالكلام والغناء وتحلق الأرواح مع الطيور التي تغزو الأشجار العامرة بالثمار الناضجة. انتقل حب البساتين والهيام بها لي، أكثر من أخوتي وأبناء عمومتي، كشفرة وراثية عن جدي. هذا الحب يُخزن كما هو معروف في الجينات ينتقل من جيل الى جيل، كنت أقضي معظم وقتي في البساتين حتى أني حسبت كم عدد النخيل في كل بستان وعدد أشجار الفاكهة الملونة، نمرّ على الفلاحين واحدا واحدا أتبادل معهم الحديث وأوفر لهم ما يطلبونه من بذور ومعدات لإدامة الزراعة في بساتينهم وعندما نتعب من الدوران انا وأبي حمود، كنا نرتاح في بستان جدي الأثيرة ويسميها (البكشة)، كان يرعاها بنفسه ورفض أن يشاركه بزراعتها أحد الفلاحين. كان دار استراحته، كوخ من سعف النخيل مشيد بطريقة هندسية بارعة في جدرانه نوافذ صغيرة لدخول الهواء، تحيطه الأشجار من كل جانب، على مقربة منه، قريبا من الشارع قبر قديم مبني بالجص والطابوق يرتفع عن الأرض مترا وحدا وسطح القبر مرصوف بالحجارة العريضة الخضراء، مضلل سقفه بغطاء حديدي مقوس يحمي القبر من الأمطار وحرارة الشمس الحارقة، غالبا ماكنت أرى شموعا متقدة على القبر وأحيانا أغصانا خضر عليه. كان الأمر طبيعيا ومن يوم درجت قدماي في هذا البستان وأنا أرى هذا القبر ولم أفكر يوما أن اسأل من يرقد فيه. أنا الآن في الخامسة والعشرين من العمر،لكني كنت أنظر اليه بتوجس وأخشى التقرب منه فقد منح بستان جدي البكشة الهيبة والخشية والوقار ولم يجرأ أحد أن يمد يده لسرقة أية حاجة منه حتى لو كانت فردة تمر لأن البستان بحماية هذا القبر وروح خفية تحوم حوله، هكذا تصور الناظرون اليه، تزوره النساء وبعض الرجال لأن أي شاخص مجهول بلا تأريخ معلوم تحاك حوله القصص والأساطير. في آخر دورة لي وأبي في البساتين جلسنا في كوخ جدي وقد هدّنا التعب وتصلبت له مفاصلنا، بعد أن شعرت بالراحة تدب في جسدي وداعبت نسائم باردة وجهي المبلل بالعرق، التفتُ ناحية القبر، تأملته، وكمن تذكر شيئا، سألت والدي..

_ أبي، لمن يعود هذا القبر..؟           

حدجني أبي بنظرة طويلة وقد استفزه سؤالي هذا، أكيد لم يخطر على باله يوما أن يُسأل هذا السؤال..بعد مرور أكثر من دقيقة وهو يتفحصني بدقة، تنحنح وكأن المفاجأة حشرت في مجرى تنفسه، أجابني بصعوبة..

_ كل الذي سمعته من أبي خضير أن في هذا القبر مخلوق صالح..

سألت وقد اجتاحتني رغبة عارمة..

_ هذا المخلوق الصالح بشر أم أي شيء آخر..؟

أجاب بعدم ارتياح..

_ لا أعلم، لكن أبي اشترى هذه البستان من سيد رحيم مالك الأراضي الشهير..

قاطعته سائلا..

_ سيد رحيم والد نبيل المقاول والثري في مدينة الحلة..

هزّ أبي رأسه وقال:

_ نعم والد نبيل، وكان من شروط البيع الذي دون في العقد أن يحافظ أبي على هذا القبر، ومن يومها وأبي خضير حريص على الاعتناء به والحفاظ عليه لأن سيد رحيم حمّله أمانة وقد صان أبي هذه الأمانة وأوصانا أن نحافظ على القبر حتى وهو يحتضر..

تراكمت الحيرة طبقات في صدري وسرح بصري متأملا هذا القبر الذي لم يكن طوله سوى متر واحد وعرضه أقل من متر، سألت ابي:

_ لكن القبر صغير قد يكون لطفل أو مخلوق صغير وليس لرجل كبيرو قد يكون قبرا لأحد أبناء سيد رحيم..؟

قال أبي بثقة:

_ أنا عاصرت سيد رحيم ولم يكن له سوى ولد واحد اسمه نبيل وهو صديقي وعمره كعمري ستين عاما ولم أسمع أن السيد فقد ولدا لأنه كان صديق أبي ولا يفترقان، كل الذي أعرفه أن في هذا القبر مخلوق صالح والناس تجلّ القبر وتهابه، لم اجرؤا يوما أن سأل أبي مرة اخرى..

بقي القبر هاجسا يلاحق تفكيري وينغص عليّ نومي، أصبح شغلي الشاغل، أخذت اجازة من الدائرة الزراعية التي أعمل بها، بقيت أدور حول القبر أياما وأصبح القبر لغزا يجب أن أفك طلاسمه وشفراته الى أن تفتق فكري عن حل جهنمي لا يخطر الا في عقول المجانين أن أنبش هذا القبر لأعرف من يرقد فيه.

في ليلة ظلماء غاب فيها القمر عن السماء وفي ساعة متأخرة من الليل سكن فيها كل شيء الريح وعواء الكلاب وحتى أزيز الحشرات، أحضرت عدّة الحفر في سيارتي الخاصة الفأس والمسحاة ومجرفة صغيرة أزيح فيها التراب المتجمع وكيسا من الجص وكوما من الطابوق، اخترت حائط القبر المطل على البستان حتى لا يرى أحد من المارة في الشارع ضوء المصباح الذي كان ينير لي جانب القبر، عملت ثقبا كبيرا في الجدار وأزحت التراب المتراكم، على سطح الأرض تلمست يدي عظاما مرصوفة، اقشعر بدني وتقلصت أصابعي وهي تتلمس العظام الباردة..أدخلت رأسي في الثقب الكبير، أنرته بالمصباح لأرى عظام كلب ممدد على الأرض وجمجمة الكلب الصغيرة وفيها ثقوب عديدة. كان جوف القبر باردا يبعث على الرهبة والخشوع والكلب ينام وطيف ابتسامة، هكذا تصورت، تنفرج عن فمه، شعرت أن الكلب ما زال حيا، أخرجت رأسي من القبر، شعرت أن آلافا من الكلاب تحاصرني في البستان، أنيابها قاطعة وعيونها حمر وكلها تريد أن تنقض  لتأكلني، كنت أرتجف هلعا وخوفا وكاد أن يغمى عليّ وأنا أقف ما بعد منتصف ليلة تموزية حارة لم تقو أنفاس النباتات الباردة أن تكاسر موجات هوائه الحارة. التقطت أنفاسي بصعوبة، لكن دقات قلبي كادت أن تطرش أذنيّ، أرجعت التراب على هيكل الكلب وبنيت ثقب الجدار بالطابوق والجص والماء الذي كنت أحضره من ساقية قريبة، كل حلمي أن أهرب من البستان في تلك اللحظة وأن لا أغامر في التنقيب في أي قبر ثانية..       

في صبيحة اليوم التالي، لم أنم تلك الليلة، كنت في مكتب المهندس نبيل، لم يتعرف عليّ في البداية لكن حين أخبرته باسم والدي حمود وجدي خضير رحب بي وأكرم ضيافتي ، لكن عينيه فيهما لغز يتراقص عن سر زيارتي، لم يحاول أن يسألني عن حاجتي، خمنت ما كان يفكر فيه، كسرت جدار الصمت والحرج بسؤاله..

_ أستاذ نبيل، ماذا تعرف عن القبر في بستان البكشة الذي باعه والدك السيد رحيم الى جدي خضير..؟

تململ في جلسته، بدا عليه عدم الارتياج، أجاب باقتضاب..

_ الذي سمعته من والدي رحمه الله أن هذا القبر لمخلوق صالح..

ركزت نظري عليه لأرى ما سيعتريه من انفعال حين أكاشفه بالحقيقة..

_ لقد حفرت القبر، ووجدت فيه هيكلا عظيما لكلب، أكيد تعرف سر هذا الكلب وقبره منذ عشرات السنين..

دب القلق في كامل جسد نبيل، أشعل سيكارة، سحب نفسا عميقا منها، تجهمت ملامحه، توقعت أن يطردني في أية لحظة، بنبرة خشنة سألني..

_ لماذا حفرت القبر..؟

_ لأعرف حقيقة المدفون فيه، فضول أرقني طويلا وقلق ظل يلاحقني نهارا وليلا، لم أطفئ حيرتي الا بحفر القبر..

زفر بقوة وأضاف..

_ هل عرف أحد بهذا الأمر، أبوك، أخوتك..؟

أجبت بثقة:

_ أبدا، هذا السر سأحتفظ به طيلة حياتي، لن أفشيه لأحد..

نهض من كرسيه، وأخذ يدور في الغرفة، عيناه سارحتان تلاحقان ظلالا غير مرئية تحاولان اللحاق بها..جلس أمامي بوجه شاحب كدر والأنفاس من سيكارته متلاحقة..نطق بشفتين يابستين..

_ سأطلعك على سر هذا الكلب وما أخبرني به والدي سيد رحيم رحمه الله. كان والدي شابا يملك هذه البستان البكشة، لم يتزوج بعد، ربى كلبا كان يلازمه كظله، شرس يمنع أي غريب من دخول البستان، لم تكن كثيفة النخل وكان والدي يزرعها صيفا وشتاء، لم تكن البساتين مأهولة بالبيوت والناس، في الظلام الدامس كان سكونها مخيفا، في ليلة قمرية وحين كان يسقي الزرع هجمت عليه ثلاثة ذئاب، إنقض أحد الذئاب على رقبة والدي وكاد أن يقطع حنجرته لولا هجوم الكلب على الذئب ، في سكرة الموت الأخيرة لوالدي، استطاع الكلب أن يحرر رقبة والدي من أنياب الذئب وانقض على الذئب ليقلع حنجرته في عضة واحدة، رفس الذئب ومات في ثوان، هاجم الذئبان الآخران كلب أبي الذي قاومهما بشراسة ولكنهما تمكنا منه وقتلاه وهربا ، لم يصدق والدي أنه بقي حيا وقد رأى الموت بعينيه لم يفصله عنه الا نَفَسُ واحد، قرر أبي أن يقيم قبرا لهذا الكلب الذي أنقذ حياته، باع البستان الى جدك لأنه لم يستطع ان ينسى كلبه الوفي وهو يلازمه طيلة الوقت وبين رجليه، وضع شرطا أن يبقى هذا القبر قائما في البستان وحين سأله جدك خضير عن صاحب القبر قال له مخلوق صالح. أرجو أن تحفظ هذا السر ليبق أبي مرتاحا في قبره، اذ لولا هذا الكلب لما كان سيد رحيم موجودا ولا أي أثر لعائلته..الوفاء نعمة زرعها الله في مخلوقاته جميعا..

لم أنبس ببنت شفه، كانت عيناي مسمرتان على وجه نبيل وأرى الكلب وهو يسرح ويمرح فرحا في عينيه. خرجت من المكتب من دون أن أودعه، كل ليلة كنت أضيء قبر المخلوق الصالح بشمعة. وبمرور الأيام تزاحمت الشموع والأغصان الخضر على هذا القبر الذي أصبح النظر اليه بلسما لسلامة الروح والخشوع..