اخر الاخبار

كثيرة هي عبارات وكلمات القاموس السياسي الرائجة التي سحرتنا معانيها وألهمتنا دلالاتها ، للحد الذي أضحت فيه بمثابة ثيمة ، بلّه تعويذة من تعاويذ خطاباتنا السياسية وانتماءاتنا الإيديولوجية المعبرة عن طبيعة التوجهات التي تتبناها هذه الجماعة أو تلك ، وماهية الممارسات التي ينتهجها هذا الطرف أو ذاك . ولعل كلمات من مثل (حرية التعبير) و(حقوق الإنسان) و(العدالة الاجتماعية) و(المساواة أمام القانون) و(مبدأ المواطنة) ، فضلا"عن مفاهيم مثل (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(الاشتراكية). من أكثر تلك الكلمات والعبارات شيوعا"في الخطابات وتداولا"في الشعارات ، سواء أكان على صعيد (المجتمع السياسي) بمختلف مؤسساته ، أو على صعيد (المجتمع المدني) بمختلف قطاعاته .  وبقدر ما يتم تواتر استخدام الكلمات والعبارات التي من هذا النمط بين عامة الناس وخاصتهم ، بقدر ما تستقبلها عقولهم ويتمثلوها كما لو أنها حقيقة من حقائق الوجود الطبيعي والاجتماعي ، بحيث يصبح من الصعب حملهم على الشك في صحة مضمونها ، أو الموافقة على نقد مقارباتها ، طالما أنها أضحت شائعة بينهم ومقبولة لديهم . وفي خضم هذه الحالة الملتبسة ، لا يعود مهما"بالنسبة لأولئك الذين لا يتخطى مؤشر وعيهم إطار مشاكلهم اليومية ومصالحهم الآنية ، طبيعة الجهة التي تسوق وتروج لمثل تلك العبارات الجذابة ؛ سواء أكانت حكومة دكتاتورية أم ديمقراطية ، حزب ديني أم علماني ، إيديولوجية يمينية أم يسارية ، جماعة أصولية أم مدنية.  وبصرف النظر عن الطبيعة السياسية للجماعات والحكومات والإيديولوجيات ، فإنه ينبغي النظر الى (حرية التعبير) بالمعنى النسبي والمجازي وليس المطلق . أي بمعنى أن هذه (الحرية) - بالنسبة لبلدان العالم المتقدمة – هي حرية (مشروطة) بجملة من الضوابط السياسية والقواعد الاجتماعية ، التي ليس في وارد تلك البلدان السماح بتجاوزها أو تخطيها مهما كانت الأسباب أو الدوافع التي تحاجج بها الجماعات المتضررة من السياسات الاقتصادية والإجراءات الاجتماعية . فعلى الرغم من ان (حرية التعبير) هنا مكفولة للمواطنين بموجب دستور الدولة القائمة ، ولكنها مشروطة ضمن (الحدود) التي تشرعها الحكومات المهيمنة بما لا يلحق الضرر بوجودها ومصالحها . ولذلك فقد شهدنا - في الآونة الأخيرة - كم (ضيقت) ، لا بل قمعت ، هذه الحكومات الليبرالية من هامش (الحرية) المزعومة ، حين تعلق الأمر بحق التظاهر للجماعات المعنية بحقوق الإنسان ضد ممارسات الدولة الصهيونية حيال الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية .

وإذا ما حاولنا مقاربة (حرية التعبير) من وجهة نظر بلدان العالم المتخلف ، فإن الطابع (المجازي) في استخدام هذه العبارة سيكون هو سيد الأحكام ، وبلا منازع . ومع ان ان حكومات هذه البلدان المتصدعة والمتشظية تنام وتصحو على إيقاع تلك العبارة المستهلكة ، إلاّ أنها لا تخرج عن كونها (ستار) يخفي فساد هذه الحكومات وانحطاطها . ومع أن دساتيرها وتشريعاتها المفبركة تبيح للأفراد والجماعات (حرية التعبير) عما يرونه إجحافا"بحقوقهم السياسية ، وإضرارا"بمصالحهم الاقتصادية ، وتجاهلا" لخصائصهم الثقافية ، إلاّ أنها لا تكتفي بوضع (الحدود) الضرورية – كما في حالة الحكومات الليبرالية - التي تدرأ من خلالها ما يتعارض مع سياساتها ومصالحها الفئوية ، وإنما ، علاوة على ذلك ، تسن جملة من (القيود) الرادعة ذات الطابع الأمني والبوليسي ، التي من شأنها ليس فقط الحدّ من تلك (الحرية) والتضييق عليها فحسب ، بل وجعلها (مصيدة) للإيقاع بكل من يعارض تلك السياسات ويناهض تلك المصالح . ولعل ما أفضت إليه (حرية التعبير) - في عراق ما بعد السقوط - من مآس وفواجع لا نزال نحصد ثمارها المرة مرارة العلقم ، كفيل بجملنا على التعاطي مع هذه الحرية من باب كونها ممارسة تتراوح ما بين (الوهم) في الحالة الأولى ، و(أكذوبة) في الحالة الثانية.