اخر الاخبار

تُعدّ مسرحية "الخيانة " واحدة من أبرز الأعمال التي تكشف عن فرادة الكتابة عند هارولد بنتر، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2005. وهي تندرج ضمن ما أسماه النقاد بمفهوم (Pinteresque)، الذي يتضمن الاقتصاد في اللغة، والصمت بوصفه خطابًا موازياً ومتوتراً متخفياً خلف الكلمات. ليست "الخيانة" مجرد دراما عن مثلث عاطفي تقليدي، بل هي تفكيك درامي للعلاقات الحميمية، حيث تتجاور الرغبة والخوف والالتزام في شبكة ملتبسة من المعاني.

"الخيانة" لهارولد بنتر (1978) تسرد قصة مثلث عاطفي بين إيما/ المتزوجة من ناشر ناجح، وصديق زوجها جيري، الذي كان عاشقها السابق، وزوجها روبرت. تتميز المسرحية بسردها العكسي، بدءًا من نهاية العلاقة بين إيما وجيري وصولًا إلى بدايتها، مما يسلط الضوء على تآكل الحب وهشاشة الروابط الإنسانية. اللغة مقتضبة والحوار مليء بالفراغات، ويبرز مفهوم مسرح الصمت، حيث تصبح السكتات والتوقفات أدوات درامية تعكس التوتر الداخلي للشخصيات. المسرحية تتجاوز فكرة الخيانة الزوجية التقليدية لتصبح دراسة عميقة في طبيعة العلاقات الإنسانية، حيث تتداخل حالات الحب والرغبة والخيانة ضمن فضاء أخلاقي رمادي، وتتحول كل كلمة وصمت إلى وسيلة لفهم الصراعات النفسية والمعاناة العاطفية.  

أهم مميزات هذا النص/العرض:

أولًا: السرد والزمن المعكوس

أهم ما يميز النص بنيته الزمنية: يبدأ من النهاية – لقاء إيما وجيري بعد انفصالهما – ثم يتدرج إلى الوراء حتى لحظة البداية الأولى للعلاقة. هذا الاختيار البنائي يحوّل اهتمام المتلقي من خلال سؤال "ماذا سيحدث؟" إلى سؤال "كيف وصلوا إلى هنا؟". الزمن العكسي يكشف عن تآكل العاطفة وتفكك الحميمية تدريجيًا، ويحوّل المشاهدة إلى عملية تأمل في انحدار الرغبة لا في صعودها. في عرض المخرجة الفرنسية تاتيانا فيال الذي قدمته مؤخرا على خشبة مسرح "لأوفر l’Œuvre" في باريس، جرى الحفاظ على هذا التعقيد البنائي من خلال مشاهد متصلة وزمنية واضحة، مدعومة بإشارات بصرية وألوان سبعينية عززت إدراك المشاهد لمسار الأحداث رغم حركتها المعكوسة.

ثانيًا: مسرح الصمت وبنية الحوار

الحوار عند بنتر لا يُفصح بل يواري، أي لا يُقال للكشف فقط، بل لإخفاء ما هو أعمق،   والفراغات بين الكلمات تصبح أداة درامية أساسية. "الخيانة" مثال نموذجي على ما يُسمى بـ "مسرح الصمت"، حيث تُحمّل التوقفات والسكتات دلالات شعورية مكثفة. وقد التقطت المخرجة تاتيانا فيال هذا البُعد حين اعتمدت على أداء يُبرز قيمة التردد والسكوت بقدر ما يبرز الكلمة المنطوقة. فشخصية جيري الذي أدّاها الممثل (سوان أرلود) منح الصمت أبعادًا عاطفية دقيقة، بينما شخصية روبرت التي اضطلع بها (مارك أرنو) استخدم السكون كأداة سلطة، يضغط عبر قلة الكلام أكثر مما يضغط بالكلام نفسه. هكذا صار الصمت حضورًا لا يقل كثافة عن الحوار.

ثالثًا: الشخصيات بين الالتباس الأخلاقي والتجسيد المسرحي

إيما، جيري، وروبرت لا يتحركون ضمن ثنائية الخير/الشر، بل في فضاء رمادي يرفض الأحكام القاطعة. إيما ممزقة بين التزامها ورغبتها في الحرية، جيري عاشق يختبر اللذة والخسارة معًا، أما روبرت فمزيج من المخدوع والخائن في آن واحد.

الأداء التمثيلي دعم هذا الالتباس: ماري كوفمان قدّمت إيما غامضة ومستقلة، تتكرر عبارتها "كان يجب أن أخبره" كإشارة إلى صراع داخلي بين الصمت والبوح. جيري بدا تلقائيًا وبسيطًا، ما جعل هشاشته مقنعة، بينما روبرت قُدِّم بصورة متوازنة، يرد الخيانة بالصمت أحيانًا أكثر من المواجهة، وهو ما زاد من توتر اللحظات المحورية.

 

رابعًا: الرؤية الإخراجية والبعد البصري

أعطت رؤية تاتيانا فيال للإخراج بعدًا إضافيًا للنص باستخدام الديكور البسيط واللمسات الزمنية المرتبطة بالسبعينات التي أضفت على العرض هوية واضحة. اختارت المخرجة أن تجعل روبرت أحيانًا "شاهدًا صامتًا" يتجول على الخشبة حتى في غياب دوره النصي، بما يعكس صورة المثلث العاطفي الذي يظل حاضرًا ضمنيًا حتى حين يظهر شخصان فقط. ورغم بعض المبالغات البصرية (مثل الإضاءة النيونية)، فإن التماسك العام للعرض ظل قائمًا، وساهم في إبراز التوتر الداخلي للنص. هكذا التقت لغة بنتر المقتضبة مع لغة بصرية دقيقة منحت المشاهد تجربة مشحونة بالانفعال. 

خامسًا: البعد الفلسفي والقراءة النقدية

"الخيانة" لا تُقدَّم كحكاية عن الخيانة الزوجية فحسب، بل هي دراسة في طبيعة العلاقات الإنسانية، حيث يتجاور الحب والخيانة ويصبح كل منهما وجهًا للآخر. النص يعيد طرح أسئلة وجودية حول هشاشة الروابط، مشيراً الى أن الحميمية فضاء غير مستقر، دائم التصدع. رؤية فيال الإخراجية عززت هذا البُعد عبر جعل الصمت والحضور الجسدي أدوات لفهم ما يتجاوز الكلام.

المسرحية تُظهر قدرة هارولد بنتر على تحويل قصة مثلث عاطفي بسيط إلى مختبر للأسئلة الفلسفية والجمالية حول الحب والحرية والصدق والزيف. النص يقدم بنية معكوسة ومسرح صمت مشحون بالدلالات، بينما الإخراج يترجم هذه البنية إلى صور بصرية وأداء تمثيلي يضاعف التوتر. النتيجة تجربة مسرحية تجمع بين الدقة الأكاديمية والعمق الجمالي، وتؤكد مكانة بنتر كأحد أبرز مجددي المسرح في القرن العشرين. وبذلك تظل "الخيانة" مثالاً بارزًا على المسرح البنترِي، متجاوزة موضوعها المباشر لتصبح دراسة في الوجود الإنساني وهشاشة العلاقات.