اخر الاخبار

تشكل عملية سرد السيرة والذكريات مساهمة فاعلة في توثيق الأحداث وفقاً لسيرة الراوي، وتعكس صورة تفصيلية تساهم في عملية التوثيق التاريخي للفترة التي يدونها الكاتب، وأمام صور صادقة ودقيقة لم تغفلها الذاكرة ولا تناساها العمر لمناضل كرس حياته خدمةً لحزب آمن بمبادئه وأهدافه إيماناً حقيقياً، ليكرس شبابه وشيخوخته في تحقيق تلك الأهداف.

مذكرات المناضل كامل كرم توثيق للذاكرة، وصفحات مجيدة من صفحات العطاء الإنساني، ومواقف تطغى حتى على حياة العائلة واستقرارها، فيكتبها ضمن كتاب تم طبعه في دار الرواد المزدهرة عام ٢٠٢٥ في بغداد، يبدأ فيه رحلته وعمله في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، ويسرد فيه معاناته ضمن أبناء منطقة باب الشيخ والصدرية ودخوله المدرسة، ومن ثم متابعته الدراسة مع العمل، وخلال تلك الفترة يبدأ الوعي الوطني في العام ١٩٥٢ ليصبح عضواً في اتحاد الطلبة واتحاد الشبيبة، وبذاكرة حديدية يتذكر فيها رفاقه ومعارفه والأحداث التي جرت في العهد الملكي، ومواقف الحزب منها في مقارعة الرجعية، ومشاركاته الفعالة ضمن التظاهرات وكتابة الشعارات وتوزيع بيانات الحزب، وتبدأ معاناته الشخصية كأي عراقي من الكرد الفيليين الذين تحملوا من ضيم وظلم الحكومات العراقية المتعاقبة ما لم تتحمله الجبال.

وما بين معاناة شهادة الجنسية والمواطنة المنقوصة بنظر الحكام، وبين حواجز إكماله الدراسة الجامعية وممارسته التعليم في مدارس الفيليين، يتطور نشاطه الحزبي بعد قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، ومعاناته السياسية خلال الحكم الجمهوري الأول، وتكليفه بأول مهمة حزبية خارج العراق في العام ١٩٦٢ إلى إيران.

ويبدأ فصل جديد تتزاحم فيه الأحداث والصور بعد نجاح انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣، فتتشارك في معاناته العائلة بأكملها حيث تتعرض للتفتيش والاقتحام والملاحقة والتوقيف، ويوثق ضمن صفحات موجزة مواقف الفيليين ضمن مناطق باب الشيخ في التصدي بشجاعة لفلول الحرس القومي، ومع نجاحه بالاختفاء وتمكنه من عبور الحدود باتجاه إيران وافتراقه عن زوجته وهو في أول سنوات زواجه، يسرد بالتفصيل معاناته في التنقل والاتصال وهو لا يملك أية وثيقة تدل على هويته، وأمام سلطة غاية في الشراسة والتعاون مع سلطة البعث، ليعود مرة أخرى لتجاوز نقاط التفتيش والعبور باتجاه إيران بشكل غير قانوني، ليختزل تلك المواقف بالواجب الملقى على عاتقه من أجل مواصلة النضال مهما كانت الظروف، ويتمكن أيضاً من تجاوز نقاط التفتيش وعناصر السافاك ليستقر مؤقتاً في قرى تضم أقاربه.

وبذلك تميز هذا الاستقرار لكامل كرم بضربة الحظ التي لم تتوفر لغيره من المناضلين الهاربين من مخالب البعث، ويعمل خلال رحلته تلك في منظمة طهران للحزب، وفي عمل مشترك مع عناصر حزب توده الإيراني، وخلال تلك الأيام العصيبة يأتيه خبر ولادة طفله الأول (علاء). وبعد انقلاب عبد السلام عارف في ١٨ تشرين الأول ١٩٦٣ على البعثيين، تقرر عودته للعمل في صفوف الحزب داخل العراق ليساهم في إعادة بناء منظمة بغداد للحزب عام ١٩٦٤، ولاحقاً تم تكليفه بمهام حزبية في المنطقة الجنوبية.

وفي الأثناء حصل انشقاق عام ١٩٦٧ في الحزب وما تركه من تأثير سلبي على الحزب والتنظيم، وبعد عودة البعث مجدداً إلى السلطة يتعرض خلال عام ١٩٧٠ إلى الاعتقال والتعذيب، حيث تشمله عجلة التعذيب ليفقد معها قدرة إحدى عينيه على النظر، وبعد إطلاق سراحه تم إرساله إلى موسكو في العام ١٩٧٢، وبعد عودته نُسِب للعمل في مقر بغداد العلني للحزب.

تعرضت عائلته إلى التسفير ضمن عملية الانتقام التي شنتها سلطة البعث على الفيليين لمواقفهم المعارضة لها، فعاد للاختفاء في العمل السري. وفي طهران يلتئم شمل العائلة ضمن ظروف غير طبيعية وغير عادلة. إلا أن ما نتمكن من استلاله من بين هذه المذكرات هو المواقف الشجاعة والصمود الأسطوري لزوجته (أم علاء) التي لم تشكُ من معاناة ولا من إبعاد زوجها، ولا من حضانتها وتربية أولادها بعيداً عن والدهم، ولم تتململ أو تضعف عزيمتها بسبب ثقل عمل زوجها ضمن صفوف الحزب الشيوعي العراقي.

وصفحة العبور والعمل ضمن أفغانستان في هذه المذكرات تُعد من بين أغرب وأكثر الصفحات في المعاناة والغرابة، تلك المعاناة التي خففتها علاقات كامل كرم الشخصية والاجتماعية، ويشكل طريقاً لعبور الرفاق إلى الاتحاد السوفيتي من إيران، وتمثيله للحزب في أفغانستان للفترة من ١٩٨٦ – ١٩٩٠، والعمل ضمن الساحة الأفغانية مع المتغيرات والأحداث السريعة، ومع انسحاب القوات السوفيتية وتدهور الأحوال في مجمل معالم الحياة الأفغانية، تنقطع عن كامل كرم التعليمات والبريد الحزبي، وذهبت عبثاً جميع اتصالاته لمعرفة التعليمات الجديدة، فيعود إلى الشام حاملاً معاناته وعائلته متمسكاً بعقيدته وإيمانه بالحزب، وضمن معاناة أخرى في الشام تزيده تمسكاً بالحزب، حتى التحاقه بعائلته التي تمكنت من اللجوء إلى مملكة السويد.

متابعة تلك الصفحات توضح لك صورة من صور معاناة الشيوعيين في مراحل سياسية مختلفة، وتبرز لك حجم العطاء الذي يبذله الشيوعي من أيامه وحياة أسرته واستقرارها التزاماً بأهداف ومقررات الحزب، هذا العطاء الذي لا يقابله ثمن أو ربح سوى صفحات النقاء والإيمان الخالص بشعار "الوطن الحر وخبز الفقراء"، ويبقى حلم كامل كرم قائماً في إمكانية تحقيقه ضمن أهداف ومبادئ الحزب الشيوعي العراقي في الوطن السعيد الذي يضمن الحرية والكرامة والخبز، وفي الشعب الذي يتطلع إلى مستقبل زاهر وطاقات واعدة تتحمل المسؤولية في إعادة بناء ما تم تخريبه وتهديمه من قواعد الوطن.