اخر الاخبار

لم يكن قرني جميل فناناً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل كان حاملًا لوعي طبقي حاد، يتقاطع فيه اللون مع الكلمة، واللوحة مع الصفحة المطبوعة، والجمال مع الالتزام السياسي. في كل مرحلة من حياته، ظل وفياً لهذا الانتماء، الذي لا يُختصر في الشعارات، بل يجسّد في الممارسة اليومية: في القاعات الصغيرة، في الورش، في مطابع الحزب، وفي محادثات بسيطة داخل مقهى أربيل.

كان لقائي الأول به عام 1976، في معرضه الشخصي الأول داخل قاعة اتحاد المثقفين الأكراد في الوزيرية، بغداد. لم يكن المعرض حدثاً فنياً فقط، بل مناسبة سياسية أيضاً، حيث كانت اللوحات تُقرأ كبيانات لونية عن واقع الإنسان الكادح في كوردستان. كانت أعماله آنذاك متأثرة بمحمود صبري، لا من حيث الشكل فقط، بل في العمق الجدلي الذي يربط الفن بالصراع الطبقي، ويعيد تعريف الجمال باعتباره انعكاساً لحياة الناس.

في العام التالي، التقيته مجدداً، هذه المرة داخل مطبعة الحزب، يعمل على تصميم ملحق بيري نوي – الفكر الجديد باللغة الكردية – وقد انهمك في النقاش حول أهمية الرسوم في الصحافة التقدمية، وكيف يجب أن تكون الصورة محفّزاً على الوعي، لا مجرد زينة هامشية. لم يكن حديثه تنظيرياً، بل نابضاً بالشغف، ومشبعاً بالإيمان بأن الفن أداة تغيير. خلال وجبة غداء مشتركة، صار الحديث عن قاعات العرض، وكان يتحدث بحماسة عن إنشاء فضاء فني حر في أربيل، يجمع الفنانين والكتّاب الملتزمين بقضايا الناس.

رحل بعدها إلى موسكو للدراسة، ثم إلى فلورنسا، فبرشلونة، وهولندا، قبل أن يعود إلى مدينته أربيل، التي لم تفارقه في أي محطة من محطات الاغتراب. " تعبت… لا أدري أين سيأخذني الدهر، لكنني أريد أن أعود إلى كوردستان"، قالها بنبرة شجن، في إحدى لقاءاتنا الأخيرة داخل مقهى أربيل، قبل أن نمشي معاً نحو اتحاد الأدباء الأكراد. لم يكن كثير الكلام، لكنه حين يتحدث عن كوردستان، تتحوّل ملامحه إلى خريطة من الضوء والظلال. قرني جميل هو أحد أولئك الفنانين الذين لم تنل منهم التحولات، ولا أفسدتهم أسواق الفن ولا الموجات العارضة. ظل يرسم الأرض وكأنها أمّه، يتلمس قشرتها بطبقات من الأكريليك، يزرع فيها البذور والبراغي والرماد، لا ليفسّرها، بل ليعيد بناءها. حتى في أعماله الأخيرة، كانت الألوان تتسلل بين شقوق الطلاء كأنها تستعيد تضاريس حلبجه أو بقايا نداء في نشرة حزبية منسية.

كان قرني ملتزماً، لا كصفة بل كمنهج حياة. التزامه لم يكن صاخباً، بل متجذراً في هدوئه، في تلك الطريقة التي يرسم بها كأنّه يزرع، ويصمت كأنه يستمع لما لم يُقال بعد. لم يغادر انحيازه للكادحين، ولم يتخل عن إيمانه بأن الفن يمكن أن يكون سلاحاً فأصدر مجلة تشكيلية وهو فخور بها بإعدادها الاخيرة، لا في وجه الجمال، بل في وجه الظلم.

برحيله، خسرنا فناناً نادراً، جعل من حياته مرآة لفكر، ومن فنه نفقاً نحو الحلم. لكنّ صوته لا يزال حاضراً، في اللوحات، في الملحقات التي صمّمها، في قصاصات الجريدة المطبوعة بفجرٍ ثوري، وفي عيون من مرّوا من تحت سماء أربيل ورفعوا رؤوسهم نحو الضوء، ورأوه هناك، يرسم كما لو كان يصلي…مدينتك اربيل ما زالت حزينة برحيلك.