اخر الاخبار

إشاراتٌ عديدةٌ كنتُ أطلقها في كتاباتي عن تحوّلات المجتمع العراقي من الحالة الصلبة، حيث الثوابت المبدئية والأخلاقية والقانونية والشرعية والقيمية والعرفية، إلى الحالة السائلة، كما يسميها المفكر وعالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان، الذي يُحيل المجتمع إلى الطبيعة الاستهلاكية التي تفرضها شروط وموديلات “الحضارة” الغربية الحديثة، ومترشحات العولمة على المجتمعات، ولا سيما تلك التي تتعرض لاهتزاز قيمي وأزمات عميقة، مثل الحروب والحصار. إذ تنتفي القيم الأخلاقية والمبادئ والأعراف، وتندرس تحت مطالب المجتمع الباحث عن الربح، في مواصلة اللحاق بجريان الظواهر والحاجات الاستهلاكية.

ما الذي يجعل أبناء غالبية القبائل يتخلّون عن انتخاب شيوخهم في الانتخابات البرلمانية لعام 2025؟

نطرق هذا التساؤل في وقتٍ تتعاظم فيه أدوار وأهمية الشيوخ بالنسبة لأبناء قبائلهم، إذ تتحكم القيم والعادات والسلطة العشائرية، مع تراخي وضعف قانون الدولة، الأمر الذي يجعل الفرد أقرب إلى شيخ عشيرته من سواه.

معطى آخر يتمثل في غياب أو اختفاء تمثيل القوى المدنية واليسارية والشيوعية عن قوائم الفائزين في انتخابات مجلس النواب لعام 2025، في حين يشهد التاريخ السياسي للعراق بأن القوى اليسارية الوطنية كانت في طليعة النضال الوطني وتضحياته الجسام، ولا سيما الحزب الشيوعي العراقي، إلى جانب القوى الليبرالية واليسارية والقومية الديمقراطية، التي شكّلت قرينة النضال الوطني والتمثيل الشرعي لآمال المجتمع العراقي ونضالاته خلال المئة سنة الأخيرة من تاريخ العراق الحديث.

لماذا تخلّى أفراد المجتمع العراقي عن عناوين راسخة في التاريخ الحديث، واتجهوا إلى انتخاب أحزاب طائفية وأخرى لصيقة بها، تقف وراءها إمدادات مالية هائلة، إضافة إلى السلاح وسلطة متهمة بالفساد؟

ولماذا تخلّى عن قيم العشيرة وسلطتها، وعن قيم الفكر الحر والثقافة التقدمية؟

تلك مؤشرات مهمة ومؤثرة على تحوّل المجتمع العراقي إلى الحالة السائلة، حيث جاءت سرديات العملية الانتخابية، وهي حدث سياسي مهم ومفصلي في حياة العراقيين، بمؤشرات تؤكد السيطرة المطلقة للمال، ووفق تنظيم مبرمج لشراء الأصوات والإعلام والإعلان وتأجير المنصات والفضاء الدعائي. كما شهدت ساحات “بورصة” بيع وشراء الأصوات أرقامًا نقدية فورية تراوحت بين 100 و500 ألف دينار عراقي للعامة، في حين تجاوزت الأرقام أضعافًا مضاعفة لدى شيوخ العشائر والوجهاء وبعض الأسماء الفنية والإعلامية، فضلًا عن الهدايا العينية، مثل السيارات الحديثة والأسلحة، وحملات الزيارات إلى المدن السياحية والدينية داخل العراق وإيران.

كانت الأحياء الشعبية، التي تشكّل نحو ثلثي أحياء بغداد، ميادين مفتوحة لبورصة أسعار الأصوات وبأساليب متنوعة، وشهدت تصادمات بين سماسرة الأحزاب ووكلائهم في تلك المناطق.

وكان الأكثر إنفاقًا يحصد أعلى الأصوات، من دون أي اعتبار لنوع الحزب أو برنامجه أو المرشح، إذ أصبح السعر المدفوع هو المحدد الوحيد للنتيجة، والحديث هنا عن مرشحين وأحزاب بلا برامج انتخابية حقيقية.

أسباب ومحفزات!

لم يتشكّل تحوّل المجتمع العراقي نحو الحالة السائلة بالصدفة أو بصورة مفاجئة، بل كان نتاج جملة من الأسباب الموضوعية والتراكمات التي امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا من التاريخ السياسي العراقي. وقد أسهمت تلك الظروف في توفير بيئة ملائمة للتفكك الاجتماعي والسيولة القيمية، وفقدان القدرة على إنتاج وعي اجتماعي تقدمي، أو حتى تمردي، وهو ما يستدعي تفكيكه ضمن العوامل الموضوعية والذاتية.

الأسباب الموضوعية!

الاقتصاد وانتفاء الصراع الطبقي!

 قبل احتلال العراق عام 2003 بأربع عشرة سنة، وجراء دخول العراق إلى الكويت، فرضت الأمم المتحدة، بتشديد أمريكي–أطلسي، حصارًا دوليًا مشددًا على العراق بموجب القرار (661) لعام 1990، ما أفقد البلاد قدراتها الصناعية التي كانت تغطي نحو 40 في المائة من احتياجاته المحلية. ومع انعدام الاستيراد توقفت تلك الصناعات الإنتاجية، ولم يتبقَّ سوى قطاع الخدمات. كما انحسرت التجارة ومعظم المهن، وعاش الشعب العراقي شظف العيش ومرارة اليأس، وبدأت تظهر انحرافات اجتماعية كالسرقة والسطو والتزوير، وتصاعدت تلك الانحرافات مع اشتداد ظروف الحصار.

توقّف الإنتاج في عشرات المصانع الكبيرة، ومئات المعامل والورش الصناعية المتوسطة والصغيرة،

وأصيبت البلاد بشلل اقتصادي وفقر إنتاجي لم يشهد له العراق مثيلًا حتى في الحروب. واختفى التقسيم الطبقي الذي كان يرفع مستوى الوعي لدى الطبقة العاملة، وتوقّف القطاعان العام والخاص عن الإنتاج بسبب عدم توفر المواد الأولية. ومع دوافع العيش والبحث عن أي منفذ اقتصادي، استُحدثت مهن رثة وغير منتجة، وكان مشهد “البسطات” يتسع في الشارع العراقي، ونشط ما يُعرف بالاقتصاد الوهمي أو الدائرة المغلقة، عبر عمليات بيع وشراء داخلية لا تنتج قيمة حقيقية مضافة تدور داخل البلاد، ومعدلات عالية من الرجال والنساء عانوا البطالة، وغادروا للعمل في الأردن أو سوريا ولبنان بحثا عن العمل، ونسبة كبيرة منهم من قطاع المدرسين والأكاديميين والمهندسين والفنيين وغيرهم.

تلك المرحلة التي بلغت ثلاث عشرة سنة من الفاقة والفقر التي ضربت غالبية الشعب العراقي، أدخل الشعب في مرحلة وعي آخر واستثنائي يجعل من حيازة المال أولوية للحفاظ على وجوده، في المال وحده يستطيع أن يدافع عن وجوده واستمرار حياته وأفراد عائلته من الضياع، صار الشعب يخضع لمعادلة التنازل عن الكرم والعطاء والتسامح، مقابل أن يكون لديك مال لكي تستطيع العيش مهما تقلب المزاج السياسي للسلطة الحاكمة، وإرهاصاتها في إدخال البلاد بحروب وحصارات التقشف ومجاعات.

المال، أصبح الركن الأول في اهتمام الفرد كضرورة للعيش والبقاء، وسقط عن اهتمام غالبية الشعب كل شي دون ذلك، تلك الحقبة الزمنية الطويلة، أسست أول مقدمات حالة السيولة الاجتماعية، إذ لا يكترث الفرد، أو يستجيب سوى لنداء واحد فقط، كيف يحصل على المال ليعيش هو وأفراد أسرته في منجاة من الفقر والجوع!

بدأت تتحلل القيم السابقة والضابطة للأواصر الاجتماعية والأخلاقية، وتهتز خطوة خطوة مع استمرار سنوات الحصار والقحط، ارتفعت معدلات الجريمة والسرقات، بدأ التعامل القيمي والأخلاقي كالأمانة والصدق والثقة تنحسر في التداول والمعاملات الاجتماعية، وصارت الأغلبية تبيع مدخراتها وما تملك من حاجيات ثمينة ترتبط بذكرياتها عن أيام الرخاء والرفاهية، بهدف مواجهة غائلة الفقر والجوع، ومع وجود سلطة قمعية استبدادية فاقدة القدرة على تقديم زاد ثقافي وفكري للجمهور، أو اعتماد قيم عقائدية تؤمن بها الناس، ويمكن أن تتحمل من أجل ذلك، كما حصلت في أحداث تاريخيّة لدى العديد من مجتمعات العالم، مثل حصار ستالينغراد وغيرها، كانت مساحة المعارضة الصامتة، وكراهية النظام تتسع؛ لأن السياسة الرعناء التي انتهجها في دخول الكويت جاءت آثارها في معاقبة الشعب العراقي عقاباً قاسيا ومؤلماً، فقد فيه ليس ملايين المرضى الذين منع عنهم الدواء، وآلاف الأطفال الذين منع عنهم الحليب والدواء، بل صار الشعب يفقد تقاليده الموروثة في صراعه الوحشي من أجل الخبز والحياة!

الأسباب الذاتية والسياسية!

سقط نظام صدام حسين عام 2003 لينهي معاناة الشعب في الحصول على الخبز بكرامة، وبدأ عصر الدولار والنظام الجديد الذي جاء بأفكار وإجراءات عمقت من مظاهر التخلف التي سادت لعقد ونصف من الزمن.

وإذ بدأت غزوات الجمهور بنهب دوائر الدولة والمال العام فيما يسمى ب"الحواسم"، في إجراء مضاد وعدائي وانتقامي شعبوي للدولة، حتى تحولت وزارات ومؤسسات الدولة ومخازنها إلى أبنية فارغة أو محروقة بعد سرقتها، فإن التشكيل السياسي للنظام الجديد الذي تشكل تحت ظل سلطات الاحتلال، لم يأت بحلول أو محاولة إعادة سياقات الدولة والمجتمع للحالة الطبيعية التي كانت عليها قبل سنوات الحصار، ولم ترمم الفجوات والانهيارات التي حدثت خلال تلك السنوات العجاف، بل عمقت من ضياع منهجيات وقواعد بناء المجتمع المنتج، لم تشتغل على إعادة الصناعات العراقية وتطويرها بالمكننة الحديثة، أو تنمية الزراعة والاستثمار والتنمية المستدامة للحقول الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، بدأ النظام الجديد برفع شعار الدولة الديمقراطية التي تشترط السوق الحر وقواعد اقتصاد رأسمالي منتج، بينما النظام كان وما زال يعتمد مبدأ النظام المركزي اقتصاديا، ويعتمد على اقتصاد أحادي، ريعي يتمثل ببيع النفط وتوزيع عائداته معاشات للموظفين الذين تضخمت أعدادهم على نحو غير مسبوق وغير طبيعي في الدولة العراقية ليشكلوا ظاهرة الموظف الفضائي أو بمعنى البطالة المقنعة، بلا إنتاج أو عمل باستثناء الأعمال الخدمية المتعثرة والمأزومة في أكثر الأحيان.

درج النظام الجديد على كسب التأييد الشعبي، فجاء بجملة من القرارات الانتقالية وبعضها حمل عنوان العدالة الانتقالية لأغراض ومنافع سياسية خالصة للأحزاب التي تهيمن على السلطة، منها قانون السجناء السياسيين الذي يعطي معاشات جيدة للسجين السياسي وأفراد عائلته مهما كان عدد أفرادها من زوجات وأبناء، فاتجهت الأحزاب المعارضة ومن ينتمون لها بالتمتع بهذه الامتيازات دون جهد أو عناء أو عمل يقدم للمجتمع، ما جعل توصيف العمل السياسي المعارض في زمن نظام صدام يأخذ طابع الارتزاق، وجاء قانون "رفحة"، أي الأسرى والذين التحقوا بالقوات الأمريكية في حرب تحرير الكويت 1991، في مدينة "رفحة " السعودية، كذلك قانون الخدمة الجهادية وتوزيع الرتب العسكرية بما يعرف بقانون "الدمج" كضباط في الجيش والشرطة العراقية، هذه القوانين جاءت لتشمل مئات الآلاف من العوائل العراقية التي منحها رواتب ممتازة وغالبيتها حصلت على مرتب معيشي واحد أو اثنين للفرد الواحد دون عمل أو إنتاج، وهناك الآلاف ممن يتقاضون ثلاثة رواتب، والمئات يتقاضون أربع أو خمسة رواتب شهرية.

وعند التدقيق تجد أن أكثر من نصف هذه الأعداد المليونية قد زورت الانتماء، أو دفعت الرشى للحصول على الأموال الشهرية المنتظمة، ظاهرة كرست "مشروعية" الخداع وممارسة الكذب والاحتيال للحصول على المال بلا عمل يقدم مقابل ذلك، وإذا كان الحصار قد فرض ضياع بعض القيم الاجتماعية والأخلاقية والثقافية، فإن النظام الجديد قد كرس منهجيات السرقة والاحتلال وضياع منطق الحق في قرارات شرعها مجلس النواب الذي تؤلفه الأحزاب المستفيدة من هذه الامتيازات، قوانين وقرارات قدمت الغطاء الشرعي في لا شرعية النهب المنظم من قبل نسبة عالية من الشعب الذي اندمج هواه مع أحزاب إسلاموية سطحية الارتباط بالجماهير، بل ارتبط وجودها مع منهج المحاصصة الطائفية والسلطة الحاكمة، وصار التعيين في دوائر الدولة منهجا منظما في كسب أصوات الجمهور مع كل موسم انتخابي، فكانت قواعد التعامل والتفاعل للأحزاب والتيارات السياسية قائمة على المنفعة والتخادم المتبادل.

هكذا، تشكل مجتمع، طفيلي، خاضع لشهية الحواسم المفتوحة عبر برمجة النهب المنظم لجمهور سائل بلا قيم أو مبادئ، واسع النطاق والحضور في المواسم الانتخابية ملتحما مع السلطة وأصحاب المال والقرار بالتوظيف في دوائر الدولة وتحقيق المكاسب، جمهور غير منتج سائل معنويا وقيميا مندفع نحو الكسب المالي دون النظر إلى شرعيته واستحقاقه، بل لتلبية النزعة الاستهلاكية، التي انفتح عليها باندفاع شره حتى غطس بتفاصيلها، يقول المفكر وعالم الاجتماع البولندي "زيجمونت باومان" في كتابه الحياة السائلة " أن المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل يحط من قدر المثُل التي تحتفي ب"الكلية" أو " المدى البعيد"، فلا تحظى تلك المُثل بجاذبيتها المعهودة، في ذلك المجتمع الحديث السائل الذي يروج الاهتمامات الاستهلاكية ويعيش عليها، ولا تجد تلك المثل تأييداً لها في التجربة اليومية، ولا تتناغم والاستجابات المعهودة، ولا تتوافق والبدهيات المكتسبة، فعادة ما تختفي تلك المُثل، وتحل محلها قيم الإشباع الفوري، والسعادة الفردية."(1)

دلائل ومظاهر عديدة تؤكد اندراج نسبة عالية من الشعب في التفلت من أي التزام أخلاقي أو قانوني يعيد تنظيم المجتمع للحالة الطبيعية، مستفيدا بذات الوقت من حالة الطائفية السياسية التي انسحبت إلى طائفية اجتماعية، تمسكت بها العوام المنتفع كسياح حامي للامتيازات التي حصلوا عليها من النظام الطائفي الجديد، هكذا وباختصار شديد، يمكن الحديث عن ظهور مجتمع عراقي آخر، بتراكيب سلوكية تحمل ملامح زمن الحصار وتعويضه بزمن النهب والسيارات الحديثة ونعيم الدولار الأمريكي، وأصبح لكل شيء ثمن، حتى الصوت الانتخابي فهو مرهون إما بوعود التعيين والحصول على عقود وامتيازات، أو ثمن يدفع نقدا، لأن العلاقة النفعية تنسف الثقة بين الجمهور وأحزاب السلطة، ما جعل مشروع التغيير السياسي ودخول القوى الديمقراطية والمدنية واليسارية صعبا للغاية في ظل هكذا تدهور قيمي، وانعدام ثقافة المواطنة والتغيير لدى الغالبية التي فضلت البورصة في تداول أصوات الأفراد والجماعات، حتى بلغت مظاهر الخداع تطويعاً وهمياً لآلاف الشباب منتسبين للحشد الشعبي، كشفت عنها المفوضية العليا للانتخابات وأسقطتها، وكانت فضيحة سياسية تضاف لبقية الفضائح.

فشل الأحزاب الحاكمة في إحداث تحولات عميقة في مسارات الدولة وركائزها ومواردها، أبقى الاقتصاد يعتمد على المفهوم الريعي، أي اقتصاد ريعي أحادي الجانب، يعتمد على واردات النفط، واستغلال أصول الدولة لصالحها من أراضي ومبان حكومية وغيرها.

طفيليات مالية- سياسية وانعكاسها على الوعي الاجتماعي!

استطاعت الأحزاب المتسلطة ووفق منهج المحاصصة سيئ الصيت، أن تشيد إمبراطوريات مالية من عقود الوزارات التابعة لها، والتي ترتبط بما يسمى اللجان الاقتصادية التي ترتبط بزعيم الحزب وقياداته، استحصال ملايين الدولارات ومليارات الدنانير العراقية بكونها تملك سلطة في الهيمنة على العقود، أي تملك الوزارة، وتتلاعب بعقودها ومراكزها الإدارية والتوظيف، وكل شيء يرتبط بمصالح الحزب وليس مصلحة الدولة أو المواطن، فصارت مجاميع من الحلقات الطفيلية الوسطية تعتاش على المال العام من خلال قربها من هذه الوزارة أو تلك، وهذا السياق أصبح عاما لجميع الأحزاب الحاكمة، يقابلها مجلس نواب متخادم وحامي للوزارات التابعة لحزبه، مجلس نواب متهما بخيانات دستورية وأخلاقية، وقسم النيابة الذي قدمه على القرآن الكريم، ارتكبت ممارسات فاسدة لا تعد ولا تحصى، وتخلى عن دوره الرقابي في أشد الظروف حاجة إلى الإصلاح ومكافحة الفساد وإعادة بناء الدولة.

الصورة التي قدمها المسؤول السياسي بمواكب عجلاته الحديثة، وحكاياته ومظاهر الثراء الفاحش والقصور الهائلة والأنباء التي تتسرب عن ممتلكاتهم المالية العظيمة وثقافة النهب والرشوة والسرقة من المال العام وأصول الدولة ومصادرتها بأثمان بخسة، تلك المظاهر الملموسة لرجالات السلطة، وكيف تحولوا إلى أثرياء يمتلكون السلطة والمال والحماية، أسقط مفاهيم الشرف الوطني والوظيفي، وأعطى إشارة الكسب غير المشروع، المباح الذي وجد فضاءه في بعض فتاوى الدينية - الطائفية، من جهة، وكون الأحزاب ورموزها التي استحلت السرقة والنهب بعنوان مجهول المالك، ولأنها أحزاب إسلامية تمارس طقوسها في عاشوراء وغيرها من المواسم والمناسبات الدينية، تلك الممارسة التي تعبر عن ازدواجية صارخة، وجدت صداها لدى غالبية تعانقت مشاعرها مع الجانب الطقسي أو الرؤيا الشعبوية للدين وللرموز الدينية من أئمة وزيارات المراقد وغيرها، وليس مقاربة حقيقية مع مضامين الدين الروحية والأخلاقية، ومع الانطواء على البنية الطائفية والتشدد بها، وهو ما تغذيه الطبقة السياسية الحاكمة لتكريس وجدها في الحكم، وتموضعها في السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن هنا وجدنا الأحزاب الشيعية والسنّية تنشط بخطابها الطائفي والتحذير من الآخر الذي يهدد وجودها، ذلك المنهج المتكرر الذي يسبق كل دورة انتخابية، تؤمن ارتفاع رصيد الأحزاب الإسلامية والطائفية والمناطقية من قبل الغالبية الطائفية والحث التي تحرض عليه عدد ليس بالقليل من المنابر وأصوات بعض رجال الدين المستفيدين من بقاء تغول الفساد في البلاد، فتأتي الجماهير الواسعة بدوافع طائفية، ويغطيها المال السياسي والوعود والعطايا، الأمر الذي يغلب على الغالبية المتشكلة من الجهلاء والدهماء والطائفيين وتبرعات مافيات المال من أصحاب المصارف وكبار التجار الذي تنافسوا مع الطبقة السياسية الفاسدة!

مواطن يبيع، وأغلبية لا تشارك بالانتخابات!

عرفنا من التفصيل السابق على الأسباب التي جعلت المواطن يبيع صوته مقابل ثمن بخس، لكن ثمة أسباباً أخرى دافعة سواءً لبيع الأصوات، أو الامتناع من المشاركة بالانتخابات لدى نسبة عالية من المواطنين المتعلمين وأصحاب الثقافة أيضاً، لأنهم أدركوا أن لا تغيير يحدث في بنية النظام والطبقة الفاسدة الحاكمة، برغم ما حدث من تظاهرات واحتجاجات وانتفاضة تشرين، لكن الأجندات الخارجية والنفوذ الأمريكي - الإيراني المتوازن في العراق، مع وجود حكومات وطبقة سياسية أوليغارشية متحكمة بالمال والسلاح، فلن يأتي التغيير عبر الانتخابات المصنعة أساسا لبقاء الطبقة السياسية.

أما النظرة العامة لدى الغالبية المشاركة، أو التي تعرض أصواتها في البورصة الانتخابية، فإنها وجدت بعد 23 سنة من عمر التجربة السياسية، حقائق معلنة وظاهرة في الشارع العراقي، لعل أولها عدم قدرة مجلس النواب بإقناع المواطنين أنه يعمل للصالح العام، بل إن الاعتقاد السائد لدى عموم العراقيين أن النواب يجتهدون في خداع الجمهور أو شراء أصواتهم من أجل الوصول إلى مجلس النواب للتمتع بالمكاسب التي يحققها له الموقع كنائب من رواتب مليونية وحمايات وخدمات وأفضلية له ولعائلته في كل شيء، وما ينطبق على النائب ينطبق على حزبه، الشيء الآخر المهم الذي يجعل المواطن يتساوق مع الثقافة السياسية- الاجتماعية الجديدة ويقوده لمنطق الحياة السائلة وتقبلها، تكمن في ظاهرة استشراء الفساد، وما صنعه من خلل طبقي وبنى سياسية واجتماعية مشوهة وطفيلية، إذ يتحول اللص والمزور والقاتل إلى صاحب ثروة وجاه وسلطة ونفوذ، بفعل انتماء سياسي أو موقع وظيفي يعطى له من حزبه دون تأهيل، والنتيجة نهب المال العام، دون حدوث تغيير إيجابي في عموم حياة العراقيين التي صارت تفقد رفاهيتها، وتتزايد صعوبات الحياة أمامها بسبب البطالة وتضخم الحياة المعيشية!

شعور أغلبية المواطنين أن الطبقة السياسية باختلاف عناوينها، تمثل هوية السارق لحقوقها، فهي تتعامل معه برد فعل مقابل في تقاض مبالغ من المال شرطا لانتخابه، لا يختلف عنوان المرشح أو حزبه عن غيره!

معيار الربح صار يتقدم في تفكير الفرد العراقي بعدما أيقن أن المواقع السياسية والحكومية وحتى الاجتماعية مثل شيخ العشيرة أو الوجيه الاجتماعي أو النجم التلفزيوني والفنان والأديب والإعلامي، الجميع يتحرك من أجل الربح المالي وإعدام القيمة المعنوية من أجل ذلك!

إن الظواهر المادية الربحية، أصبحت تقود الجموع دون استدعاء للفكر أو للمعنى الثقافي والأخلاقي، ومن يتحصل على المال هو الأجدر والأكثر كفاءة وتأثيرا بما حوله، وما تبقى من سلوكيات أخلاقية فهي استعراضية لا أكثر، أو توجيهات المنابر الطائفية فهي لم تبتعد عن الهدف الربحي الذي صارت ثقافة الفساد تنظم ميكانيزمات الداخلية.

المجتمع العراقي اليوم ليس هو المجتمع العراقي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بعد أن تعرض لمؤثرين مدمرين هما الحصار الاقتصادي (13) ثلاثة عشر عاما، ونظام هجيني فاسد (ديمقراطي- استبدادي- أوليغارشي)، المجتمع أشبه بالنهر مياهه تحمل صفات البيئة التي انحدر منها، وإذ يقول الفيلسوف هيراقليطس "أنت لا تنزل لذات النهر مرتين"، فإن البحث عن أسباب عدم انتخاب القوى الديمقراطية واليسارية والشيوعية، أشبه بدق المسامير بالهواء.

وإذ يُشغل الحزب الشيوعي العراقي وبقية القوى المدنية والليبرالية في البحث عن الأسباب التي أدت إلى إخفاقهم في تحقيق مقاعد في مجلس النواب، فإن المشكلة الحقيقية لا تمثل بضعف نشاطهم الإعلامي أو السياسي، بل في نظام اجتماعي هش ومهجن تحت تأثيرات مادية هائلة وتشوهات جذرية تعرض لها خلال خمسة عقود من التحول والتشوه والتطبيع على النزعة الاستهلاكية التي تجعل من الكتل المكوناتية تفقد صلابتها، وتتحول لمكونات سائلة!

قرأت العديد من الكتابات التي ناقشت إخفاق الشيوعيين، بعضها كان يتصف بقدر من البحث المتعمق، وأغلبها لم تأت على قراءات في التحولات التاريخية ومسخ العمق الأخلاقي والمعنوي للمجتمع.

إن الأزمة التي يعانيها الحزب الشيوعي العراقي في عدم قدرته على إحراز مقاعد برلمانية تؤهله للمشاركة الفعالة في السلطة، لا تكمن في أخطاء متكررة ارتكبها الحزب سابقاً وحديثاً، كما ذكر بعض الباحثين الشيوعيين، أو وجود بعض الدخلاء والانتهازيين بين صفوفه، بل إن قصة الحزب الشيوعي أشبه بموضوع الديمقراطية في العراق، إذ من الصعب أن يحققا نجاحا متسارعاً في ظل مجتمع محكوم بنظام رعوي ومغلف بثقافات طائفية ومذهبية متهالكة تموضع فيها الشعب بعد سنين طويلة من الحروب والتغذية الاستبدادية والطائفية والمسخ لكل ما هو وطني وثقافي.

الشيوعيون الآن ينبغي أن ينطلقوا في مرحلة تأسيس جديدة نحو مجتمع عراقي جديد وغريب، ليس المجتمع الذي عرفوه قبل حملة التصفيات التي استهدفت الحزب من قبل نظام صدام الدكتاتوري، لابد أن يدركوها أنهم إزاء مجتمع آخر.

"أنت لا تنزل لذات النهر مرتين" مجتمع آخر لا يخلو من الشذوذ في سلوكياته واتباع مسارات ضد مصلحته ومستقبله، شذوذ وانقلاب في المعاني أملتها ظروف موضوعية وضغط ثقافي إسلاموي معبأ سياسيا، ويرتع في تخلف ثقافي كارثي عام،

ومن هنا يحتاج الحزب الشيوعي والقوى المدنية إلى مراجعة دائمة للعلاقة مع المجتمع والاجتهاد في فهم هذه المسارات، كذلك التخلي عن الصنميات المستمرة في قيادة الحزب، والبحث عن النوع السياسي المؤثر اجتماعيا بين قطاعات الشباب واستثمار منوع وغير مباشر لوسائل السوشيال ميديا بنقد اجتماعي، بلا حمولة أيديولوجية.

ختاما، أقول إن الوضع العراقي مقبل على أزمات حادة وعميقة، بسبب الفشل الذي انتهت إليه الطبقة السياسية الحاكمة خلال عقدين ونيف، وسوف يترشح عن الأزمات أوضاع جديدة، واتساع مساحات الرفض ومعارضات واسعة تستدعي مشاركة ذكية من عناصر الحزب الشباب، وتجنب التصادم مع السلطات سواء بالخطاب الإعلامي أم ساحات التظاهر، عملية بناء المعارضة الموجهة تستدعي تنمية هادفة والحرص على بقاء النظام الديمقراطي، بعد تحطيم قواعده العرفية الفاسدة الحالية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*(1) ص 74 الحياة السائلة.