اخر الاخبار

الاقتصاد عبر كل الأزمنة هو العلم والفن والمهنة، أيضاً وصف بعلم الاختيارات وعلم الثروة كذلك هو علم إجماعي مع ذلك يحلو للكاتب الأسكتلندي توماس كارليل تسميته بالعلم الكنيب وهو صاحب المقولة الشهيرة " التفكير أبو العمل". ولابد لنا من وقفة سريعة حول بعض الأفكار في عالم الاقتصاد وما ترشح عنها من نتائج وللتفكير الاقتصادي دور مهم ساعد في عملية فهم الظواهر المعقدة ومن ثم اتخاذ القرارات الأكثر عقلانية خاصة وأن هدف الاقتصاد هو دراسة الثروة والإنسان. وتبقى أفكار الإنسان هي انبثاق لحالته المادية كما يقول كارل ماركس. هذا الموضوع يأخذنا في رحلة للبحث عن أفكار اقتصادية عميقة المعنى تناولت الجوانب التي من شأنها جعل الدولة قوية اقتصاديا تطيب فيها المعيشة ويزدهر فيها رقي الإنسان. فالكاتب الألماني يواخيم بيكرس تناول في كتابه البحث السياسي عام ١٦٦٧مجموعة كبيرة من الأفكار الاقتصادية المهمة ويؤكد بيكرس على دور الدولة وباقي المؤسسات في الحياة الاقتصادية كذلك يهاجم الشرور المتمثلة بالاحتكار والمنافسة غير المشروعة والمضاربات في الأسعار وغيرها من الأمور السلبية. ويشدد بقوة على أهمية المؤسسات الاقتصادية للدولة ويعني بها (العملة، المعمل، المتجر، المصرف)، بحيث يربط جميع هذه المؤسسات بتوفير عرض وطلب سليمين وكافيين لثروة البلد النقدية مما يعني دولة ذو قوة اقتصادية كبيرة.

أفكار بيكرس هذه كانت قبل قرن تقريبا من بدأ الثورة الصناعية في أوروبا (¬¬1760- 1830) واليوم وبعد أكثر من ثلاثة قرون ونصف من تلك الأفكار وفي محاولة ربط الماضي بالحاضر لابد من استعراض المهمات الأربعة التي أوردها بيكرس على واقعنا الاقتصادي هذه الأيام، فهل من رؤى حقيقية في ظل التحديات ومعاناة العجز الهيكلي المزمن وهل بالإمكان إيجاد حلول ناجعة تنتهي بها العقبات والمشاكل.

فالدينار (العملة) في معركة وجودية منذ عقود بسبب الحروب والعقوبات الاقتصادية السابقة على البلد. ضعف وانخفاض الدينار مقابل عملات البلدان المجاورة أو العملات العالمية شكل تحديا كبيرا لوضع الاقتصاد المالي بينما يقف البنك المركزي عاجزاً عن رسم السياسة النقدية بشفافية فمثلا نجد السعر الرسمي للدولار (١٣١٠) دينار لكن الواقع مختلف تماماً في السوق الموازي ويصل أعلى من (١٤٢٠) دينار وهو عبارة عن (تداول، تحويلات، صيرفة) يقف خلفها مفهوم (المال السياسي والمال الاقتصادي) بلا أدنى شك. ناهيك عن مزاد بيع العملة حيث يبيع شهرياً مئات الملايين من الدولارات تحت عنوان (الاقتصاد الدولاري) في ظل مشهد معقد وخطير وهو استنزاف نقدي لقوة البلد. إذن فالعملة في مأزق حقيقي وهذا غير ممكن كون المال جزء حيوي من الاقتصاد، واستقرار العملة شرط أساسي للنمو الاقتصادي. ويبقى الحل الأمثل لعملة قوية متمثلا بإدارة ناجحة للبنك المركزي مصحوبة بخطط نقدية رصينة تعكس ثقة المستثمر وبقية المستهلكين باقتصاد الدولة، أيضا ستنعكس بصورة ايجابية على التجارة الخارجية ومستوى معيشة الإفراد. أما عن المؤسسة المهمة الثانية وهي (المصنع) فالحديث يتسع كون الصناعة (علم وإدارة وتنفيذ) ويتفق الجميع حول مفهوم (الإنتاج يخلق المنافع) بوجود مقومات المصنع أو الإنتاج متمثلة برأس المال والمواد الخام والطاقة والأيدي العاملة. وبذلك تكون الصناعة واعدة تجذب الاستثمار وتنشط الاقتصاد وتحقق الاكتفاء الذاتي أيضاً وتنوع مصادر الدخل وتخلق فرص عمل تقضي على البطالة ومصدر مهم للحصول على المال. ويمكن للمصنع أن يعزز الابتكار والتطوير وبذلك يدعم الاقتصاد الوطني ويقلل من تبعية الوارد الخارجي.

الواقع الحزين الذي تعيشه صناعتنا فاق التصور مداه فالخارطة الصناعية لم تتغير طيلة عقدين أو أكثر بقيت على حالها.. أما عن قطاعات الصناعة العراقية الثلاثة فلا تزال بعيدة عن الطموح فمساهمتها في الناتج المحلي ضعيف جد ا لا يتجاوز ٣ في المائة وهذا انتحار بعينه كونه المقياس الأساسي لحجم الاقتصاد. وفي الحقيقة العراق يسرق بالاستيراد العشوائي مع فوضى الإهمال، وهنا لابد من إيضاح بعض المؤشرات عنه. فأكثر من ٣٥ ألف مصنع متوقف تماماً من أصل ٦٧ ألف مصنع متنوع، أيضاً اعتبار ٣٢ شركة من شركات القطاع العام (وزارة الصناعة) في عداد الخسائر، وسوف تضطر للإغلاق عاجلا أم آجلا. أما عن باقي مصانعنا فهي تعمل بربع طاقتها الإنتاجية وهو خلل واضح ومعلوم للجهات ذات الاختصاص، ويبدو أن تحديات الصناعة سارية وربما لم تنته فالفساد الإداري والمالي متراكم مع الإرادة الوطنية الضعيفة وعدم الاستقرار السياسي والتشريعات القانونية المهمة بالإضافة إلى ضعف البنى التحتية وعدم توفر الطاقة. كل هذه التحديات جعلتنا شعبا غير منتج مع شديد الأسف بعد أن كانت الصناعة تعني الرخاء في الماضي القريب، وعليه نحتاج إلى ثورة اصلاح وتطوير في كل القطاعات ومعالجة كل مكامن الخلل في أقسام الصناعة العراقية ويجب التأكيد على الاقتصاد الإنتاجي (المعاكس للاقتصاد الريعي) من أجل تحقيق النمو وذلك برفع مستوى الكفاءة الإنتاجية وتنمية الطاقة الإنتاجية باستخدام المواد المتاحة.

إذا اعترفنا بوجود مشاكل اقتصادية وإذا كان التخطيط الاقتصادي غير سليم ولم يأت بنتائج ايجابية فنحن على أعتاب الحل أو تخطينا نصف المشكلة لنظامنا الاقتصادي. وفيما يخص (المتجر) و (المصرف) آخر مهمات الدولة. فالمتجر أو السوق مكان التقاء البائع بالشاري وهو الملاذ الأخير للمستهلك إذا علمنا بأن الهدف النهائي للنشاط الاقتصادي هو الاستهلاك. ويرتبط الاستهلاك بالقوة الشرائية وهي من أكبر المشاكل التي نعانيها كأفراد بسبب ضعف الحياة الاقتصادية.

فالدخل النقدي مثلا (راتب الموظف، أجرة العامل) لا يعطينا صورة واضحة عن مستوى المعيشة مهما بلغ لكن الدخل الحقيقي هو (مقدار السلع والخدمات التي يستطيع الفرد شراءها بدخله النقدي) ومن هنا يبرز دور الاقتصاد العام في دراسة تأثير الأسواق على الجمهور وتحقيق أقصى اشباع ومنفعة للمستهلك. والمنفعة تعني الرضا مما ينعكس ايجابياً على الحياة الاقتصادية من خلال تعزيز دوران الأموال داخل المجتمع وتوفير فرص العمل ودعم وتشجيع ريادة الأعمال وخلق الطلب على الوظائف وتعزيز السياحة ودعم الاقتصاد المحلي، إذن فالسوق مؤسسة مميزة للاقتصاد.

اما عن المهم الرابع (المصرف) فأحد الدعائم الأساسية للرخاء الاقتصادي في أي دولة هو وجود نظام مصرفي كفوء وسليم (تأمين الازدهار العام للشعب) والمصرف هو جزء لا يتجزأ من السوق النقدية ويشكل دوراً رئيسياً في الاقتصاد ولا تقتصر مهمته على استقبال الودائع من أصحابها واقراضها لمن يحتاجها أو كوسيط بين المودعين والمقترضين، بل أكثر من ذلك فهو يعطي صورة واضحة عن المشهد الاقتصادي للبلد ويحقق الاستقرار المالي الذي يحفز الأنشطة الاقتصادية من أجل خلق فرص العمل الواسعة.

إن المهمات التي يطلع بها البنك المركزي كثيرة فمثلا هو لا يسعى للربح من وراء نشاطه بل يكون لمسؤولية التشاور مع الحكومة في وضع السياسية النقدية التي تحقق أهدافها الاقتصادية المرسومة كذلك يعتبر مصرف الإصدار ومصرف الحكومة والمصارف، فضلا عن أنه الرقيب على حجم الائتمان المصرفي والمقرض الأخير للمصارف التجارية بالإضافة إلى عدة مهام أخرى يقوم بها.

أما عن أيامنا الحالية فالعجز واضح في الإدارة والتخطيط والتنظيم حيث يقف البنك المركزي العراقي موقف المتفرج من فوضى البنوك التجارية والتي هي بالعشرات وتمارس فقط بيع العملة الصعبة تحت شعار (الاقتصاد الدولاري) وهو انعكاس لفلسفة أصحاب القرار على ما يبدو وسط أزمة الجهل الاقتصادي والمالي سريعة لنمو، كذلك التحذيرات الكثيرة من (البنك الفيدرالي الأمريكي راعي أموال النفط العراقي) هذا الفيدرالي يصدر قرارات ويعاقب مصارف تجارية حسب رأيه وما تقتضيه مصالحه فقط وهذا انتهاك صارخ للسيادة مع شديد الأسف.

لابد من مراجعة حقيقية يقوم بها البنك تكون بحلول ناجعة وسريعة لخلق قيمة اقتصادية للأموال المودعة أضافة للودائع بدلا من تخزينها في أقبية البنك بلا فائدة، ويجب أن تكون قروض انتاجية وأدوات استثمارية حقيقية موجهة للقطاعات المنتجة كذلك السيطرة على موضوع الدين الداخلي والخارجي بالتعاون مع الحكومة.

وأخيرا وبعد كل هذا العرض للمهمات الأربع ينبغي علاج السلبيات والخلل في كل مؤسسات الدولة مهما بلغت التحديات فالحاجة مهمة بأن تكون حكومة اقتصادية تستطيع أدارة المجتمع أدارة أفضل كذلك نحتاج إلى تفاعل عميق بين المحاسبة والإحصاء والاقتصاد والتخطيط وكل ما يلزم لإنجاح الوضع الاقتصادي في العراق. لله درك يا وطن.