اخر الاخبار

في السنوات الأخيرة، لم يعد العنف الذي تتعرض له النساء في العراق مقتصرا على أشكاله الجسدية أو اللفظية التقليدية، بل اتخذ بعدا جديدا وخطيرا عبر الفضاء الرقمي. فقد تحولت الهواتف الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي إلى أدوات تستخدم للتهديد والابتزاز والتشهير، في ما يعرف بـ"العنف الميسّر تكنولوجيا"، وهو شكل من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، تتزايد حدته مع ضعف الحماية القانونية وغياب الوعي المجتمعي.

العنف الرقمي يشمل ممارسات متعددة، منها الابتزاز بنشر صور أو محادثات خاصة، الملاحقة الإلكترونية، حملات التشهير المنظمة، خطاب الكراهية، وانتهاك الخصوصية دون موافقة. وغالبا ما تكون النساء، ولا سيما الشابات والناشطات والصحفيات، الأكثر عرضة لهذه الانتهاكات، نظرا لحضورهن في الفضاء العام واستخدام هذا العنف كوسيلة لإسكات أصواتهن.

تقول (س.ع)،"رسالة وحدة على مواقع التواصل كانت كافية حتى أعيش شهورا من الخوف. شخص هددني بنشر صور خاصة إذا ما نفذت طلباته. لم اتمكن من تقديم الشكوى القانونية او حتى الحديث مع عائلتي حول ما اتعرض له من ابتزاز الكتروني".

هذه الشهادة تعكس واقعا تعيشه كثير من النساء، حيث يتحول التهديد الرقمي إلى ضغط نفسي واجتماعي مستمر. وفي مجتمع ما تزال السمعة فيه عنصرا حاسما في حياة المرأة، قد يؤدي التشهير الإلكتروني إلى عزلة قسرية، أو خسارة العمل والدراسة، أو حتى التعرض للعنف الأسري.

وتشير تقارير وبرامج في العراق إلى تنامي ظاهرة العنف الميسر تكنولوجيا بحق النساء والفتيات، بالتوازي مع التوسع السريع في استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ويؤكد البرنامج أن هذا النوع من العنف لا يقل خطورة عن الأشكال الأخرى، كونه يخلف آثارا نفسية واجتماعية طويلة الأمد، ويقوض مشاركة النساء في الحياة العامة.

لكن المشكلة لا تتوقف عند حجم الانتهاكات، بل تمتد إلى طريقة التعامل معها. تقول (م.ح) طالبة جامعية "عندما قررت أقدم بلاغ، أول سؤال وجه لي: ليش عندچ صور خاصة أصلا؟ حسسوني إني أنا المذنبة، وليس الشخص الدي ابتزني".

هذا النمط من لوم الضحية يشكل أحد أكبر العوائق أمام الإبلاغ عن الجرائم الرقمية. فالكثير من النساء يتراجعن عن اللجوء إلى الجهات الرسمية خوفا من الوصمة الاجتماعية، أو من ردود فعل العائلة، أو لعدم الثقة بقدرة المؤسسات على حمايتهن وضمان سرية قضاياهن.

العنف الرقمي غالبا ما يمتد أثره إلى الواقع المعيشي. (ر.ن)، وهي موظفة سابقة في القطاع الخاص، تروي "بعد ما انتشرت إشاعة عني عبر مجموعات الواتساب، تغير تعامل الإدارة معي. بعدها بفترة قصيرة طلبوا مني أترك العمل بدون أي مبرر".

وتؤكد منظمات محلية معنية بحقوق المرأة أن مثل هذه الحالات ليست فردية، بل تعكس نمطا متكررا يستخدم فيه العنف الإلكتروني كأداة للإقصاء الاجتماعي والاقتصادي. كما تشير هذه المنظمات إلى أن غياب تشريعات واضحة تجرم العنف الرقمي بشكل صريح، يترك مساحة واسعة للجناة للإفلات من العقاب.

في هذا السياق، يعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بالتعاون مع مؤسسات محلية، على تنفيذ مبادرات تهدف إلى رفع الوعي بمخاطر العنف الرقمي، وتعزيز مهارات الحماية الرقمية لدى النساء، فضلا عن دعم الحوار حول ضرورة تحديث القوانين العراقية بما ينسجم مع التحديات التكنولوجية الراهنة.

ومع ذلك، يرى مختصون أن هذه الجهود، على الرغم من أهميتها، تبقى غير كافية ما لم تترجم إلى سياسات وطنية واضحة. فمواجهة العنف الرقمي تتطلب تشريعات تضمن تجريم جميع أشكاله، وتدريب الجهات الأمنية والقضائية على التعامل مع الأدلة الرقمية، وإنشاء آليات إبلاغ آمنة تراعي خصوصية الضحايا، إضافة إلى حملات توعوية تستهدف المجتمع ككل.

واخيرا، إن ضمان فضاء رقمي آمن للنساء في العراق لم يعد مسألة ثانوية، بل شرطا أساسيا لتمكينهن من المشاركة في الحياة العامة، ولأي مشروع تنموي يسعى إلى العدالة والمساواة. فالعنف، مهما تغيرت وسائله، يبقى عنفا، ومواجهته تبدأ بالاعتراف به، والاستماع إلى أصوات الناجيات، وتحويل هذه الأصوات إلى سياسات حماية حقيقية.