اخر الاخبار

أيها الإسبان، لقد مات فرانكو"، هذا ما أعلنه التلفزيون الإسباني قبل خمسين عاما، أي في 20 تشرين الثاني 1975. في ذلك اليوم، توفي فرانكو على سرير المستشفى، رئيسًا لدولة حكمها بقبضة من حديد، استبدادية وعنيفة، لمدة 40 عامًا، بعد انتصاره في الحرب الأهلية بمساعدة هتلر وموسوليني. بعد الحرب، فرض فرانكو نظامًا فاشيًا وإجراميًا، أغرق البلاد في واحدة من أحلك وأحزن فترات تاريخها. يومها حبس معظم الإسبان أنفاسهم خوفًا مما قد يحدث لاحقًا. فبعد قرابة أربعة عقود من الدكتاتورية الوحشية، هيمنت القوى الرجعية من جديد على مؤسسات البلاد، وتباهى القائد العام نفسه بأن كل شيء مسيطر عليه. 

خلفية تاريخية موجزة

أهملت الملكية الإسبانية، التي كانت في السابق السلطة الاستعمارية الأوروبية الاولى، العديد من عمليات التنمية داخل حدودها بسبب الإيرادات التي كانت تُدرّها. أدى ذلك إلى أزمات وصراعات داخلية عديدة بعد فقدانها معظم مستعمراتها في القرن التاسع عشر. ولم تبدأ إجراء تغييرات جذرية ممكنًا إلا مع قيام الجمهورية عام ١٩٣١. ومع ذلك، ردّت الدوائر الحاكمة، المؤلفة من كبار مُلاك الأراضي ورجال الأعمال والكنيسة الكاثوليكية، برفضٍ صريحٍ لصعود الحركات الاجتماعية. وكانت قطاعات كبيرة من الجيش تحلم بعودة الحكم الاستعماري، وهذه المرة في شمال المغرب. ونظرًا للوضع العام في أوروبا، الذي كان يُنذر، منذ وصول النازيين في عام 1933 إلى السلطة في ألمانيا، بحرب جديدة، بدأت الاستعدادات لانقلاب عسكري ضد الجمهورية الفتية. وتسارعت وتيرة هذه الاستعدادات بعد الفوز الانتخابي لتحالف "الجبهة الشعبية" اليساري في ١٩٣٦. كما تم التوصل إلى اتفاقيات مع إيطاليا الفاشية.

وهكذا، بدأ الانقلاب في 17 تموز، في المغرب، بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو. كان فرانكو يقود أقوى تشكيلات الجيش الإسباني، الجيش الاستعماري، ولهذا تمكن من قيادة الانقلاب.  بالإضافة إلى ذلك، مكّنته شهرته من الحصول على دعم ألماني حاسم. شكّل، إلى جانب الدعم الإيطالي، أساسَا رئيسيا لنصره العسكري.

لم يكن فرانكو في السنوات السابقة سياسيًا بارزا، لكنه تمتع بسمعة عسكرية، على أساس تجربته في المغرب. لكن تعاطفه مع اليمين المتطرف كان، منذ فترة طويلة، واضحًا. لهذا انحاز كليا إلى حلفائه الفاشيين. لم تعرف إسبانيا، قبل الحرب الأهلية، سوى حركة فاشية هامشية متمثلة في الكتائب الإسبانية (الفالانغ). وحدها فرانكو في حزب واحد، إلى جانب رفاقه المتآمرين من اليمين الملكي والكاثوليكي. ولم تكن إعادة النظام الملكي، الذي كان سيضطره حينها إلى التخلي عن منصبه، واردة في ذهنه على الإطلاق، حتى لو بدا حكمه مشابهًا له ظاهريًا.  لقد فضّل فرانكو نموذج الحكم، الذي يعتمد على شخص الزعيم المطلق. وقد دعمت الكتائب الإسبانية، هذا النموذج. فأصبح الزعيم الأوحد لحزب الدولة. وفي داخل هذا الحزب، ارتبطت جميع فصائل نظامه معًا وفقًا لتمثيل نسبي محدد. لكن لم يكن على حزب الدولة سوى الموافقة. لقد كان الجيش هو السند الأساسي لفرانكو. وهنا كان بوسعه أن يمنح (أو، إذا لزم الأمر، أن يسحب) الامتيازات عبر عملية توزيع المناصب، خاصة وأن العسكر كانوا يشغلون أيضا العديد من المناصب في قطاعات الاقتصاد المختلفة.

كأداة مهمة أخرى للسيطرة، أُنشئت نقابة حكومية عام ١٩٣٨، على غرار "جبهة العمل الألمانية" التابعة للدولة النازية، لتحل محل النقابات العمالية المحظورة. وأُجبر العاملون بأجر على الانضمام لفروعها. واستُكملت السيطرة بتأسيس منظمات يكون الانتماء فيها إلزاميا، للنساء والشبيبة، والطلبة.

دور الكنيسة الكاثوليكية

في المرحلة الأولى التي أعقبت الحرب الأهلية، أعلن النظام صراحةً أنه "شمولي". وارتباطا بأصولها التاريخية، لعبت الكنيسة الكاثوليكية دورا مميزا. في الواقع، لم تكن الكنيسة مجرد "جهاز دولة أيديولوجي"، على حد تعبير لويس ألتوسير، بل كانت مسؤولة عن ضمان التعليم والأخلاق. وسيطرت إلى حد كبير على النظام المدرسي، وكان تأثيرها واضحًا أيضًا في ممارسة الرقابة. في المقابل، حشدت الكنيسة الدعم للنظام دوليًا، مما ضمن له قاعدة جماهيرية. بالإضافة إلى ذلك، مكّنت علاقات فرانكو الوثيقة بالكنيسة من استغلال نفوذها في الصراعات بين مختلف الفصائل داخل النظام.

على الرغم من أن إسبانيا، في أعقاب دمار الحرب الأهلية، لم تتمكن من الانحياز بفعالية إلى أيٍّ من الجانبين عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، إلا أن حيادها الرسمي سمح لفرانكو بتحويل تركيزه بسرعة إلى "الغرب الحر" منذ عام ١٩٤٥ فصاعدًا. وأخيرًا، في خمسينيات القرن الماضي، أُعيد تأهيل النظام دوليًا، بدءًا من الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمكنت من إنشاء قواعد عسكرية مهمة هناك. وأخيرا، في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، تخلى النظام أيضا عن سياسته الاقتصادية الصارمة التي اتبعها في السابق والمتمثلة في "الاكتفاء الذاتي" والعزلة الاقتصادية، وسعى إلى إقامة علاقات أوثق مع البلدان المزدهرة في الجماعة الاقتصادية الأوروبية (الاتحاد الأوروبي حاليا). 

ما بعد فرانكو

عين الملك خوان كارلوس، خلافًا للتوقعات، حكومةً قادت إسبانيا نحو انتخابات حرة عام ١٩٧٧، وهي الأولى منذ الجمهورية الإسبانية. وفي عام ١٩٨١، ساعد في إحباط محاولة انقلاب فاشلة شنّتها وحدات من الجيش والحرس المدني المتشدد، والتي استولت لفترة وجيزة على البرلمان الإسباني.

وفي العام التالي، فاز حزب العمال الاشتراكي الإسباني، الحزب المهيمن في حكومة الجبهة الشعبية للجمهورية الإسبانية في سنوات 1936- 1939 ــ بالانتخابات العامة.

اليوم، يُثير خوان كارلوس، الذي تنازل عن العرش لابنه فيليبي عام ٢٠١٤، جدلاً واسعاً. تُشيد سيرته الذاتية بـ "ذكاء فرانكو وحسّه السياسي". لكنها لا تُشير في صفحاتها الخمسمائة إلى ضحايا فرانكو، ولا إلى الندوب التي خلّفتها الحرب الأهلية الإسبانية في المجتمع.

يأتي نشر المذكرات في وقتٍ تتصاعد فيه التوترات السياسية في إسبانيا. ويشهد حزب فوكس اليميني المتطرف (فاشي جديد) تصاعدا ملحوظًا في استطلاعات الرأي. وفي ست مناطق تتمتع بالحكم الذاتي، يدعم الحزب إدارات يمينية يقودها حزب الشعب اليميني المحافظ، والذي يُعدّ ملاذًا لأنصار فرانكو.

وشهدت ذكرى وفاة الدكتاتور أيضًا ظهور جماعات فاشية معادية للهجرة في شوارع مدريد، حيث أدوا التحية النازية، ورددوا الأناشيد الفرانكوية، ورفعوا الأعلام المستوحاة من قوات (أس أس) النازية.

وعلى الرغم من اعتبار التحول انتصارًا للسياسة السلمية من أعلى إلى أسفل، إلا أن "الانتقال" حينها لم يكن خاليًا من الدماء. فقد لقي المئات حتفهم في أعمال عنف سياسي، بما في ذلك، نتيجة لهجمات إرهابية شنتها جماعة يسارية متطرفة غامضة، تُدعى "غرابو" (جماعات مقاومة الأول من تشرين الأول المناهضة للفاشية)، وما أصبح معروفا الآن أنها كانت مخترقة بشكل واسع من قبل الشرطة السرية لفرانكو..

وكان من بين أسوأ جرائمها اغتيال خمسة محامين شيوعيين عام ١٩٧٧ على يد مسلحين فاشيين في شارع أتوتشا بمدريد. حضر جنازتهم أكثر من ١٠٠ ألف متظاهر، وكانت من أوائل التظاهرات الحاشدة منذ وفاة فرانكو. أعقب ذلك إضرابات ومظاهر تضامن في جميع أنحاء البلاد. بعد بضعة أسابيع، تم منح الحزب الشيوعي الإسباني حق العمل العلني.

وهكذا استمر الأمر، سنة بعد سنة، حيث وقع فرانكو، الذي كان يعاني من مرض عضال، على أوامر الإعدام آخر خمسة معارضين، وهو مسجى إلى فراش الموت.

تلاشي الآمال والحرب الباردة

في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان هناك بصيص أمل بإمكانية إسقاط نظام فرانكو، الذي كان آنذاك منبوذًا دوليًا. لكن سلاح الفرسان الأمريكي سارع إلى إنقاذ، إذ وجد في فرانكو أداةً موثوقة في معاداة الشيوعية خلال الحرب الباردة. وبدأت الولايات المتحدة بتقديم القروض السخية طويلة الأجل منذ عام ١٩٥٠، وبعد ثلاث سنوات، مُنحت الولايات المتحدة قواعد جوية وبحرية في إسبانيا مقابل المزيد من المساعدات الاقتصادية والعسكرية.

إسبانيا اليوم مجتمعٌ نابضٌ بالحياة ومنفتح، وإن كان يعاني من جميع المشاكل الاجتماعية المألوفة في الديمقراطيات الليبرالية الغربية المتقدمة. لكن، ما إن تحك السطح حتى تنكشف الانقسامات التاريخية، وتعود إلى الظهور مواقفٌ قديمةٌ شكّلتها أربعون عامًا، هي سنوات عهد فرانكو، المليئة بالرقابة وأكاذيب الديكتاتورية.

لم يتم كسر الاتفاق غير الرسمي للصمت الذي رافق العودة إلى الديمقراطية إلا مع بداية هذا القرن ــ بعد مرور 25 عاماً كاملة على وفاة فرانكو.

الشبيبة تكسر الصمت

بدأت أجيال الشبيبة تتساءل عما حدث لأجدادها خلال الحرب الاهلية، ولماذا لم يُدفنوا، ولماذا لم يجرؤ أحد على الحديث عن ذلك. وسرعان ما اكتشفوا الحقيقة المروعة، وهي أن إسبانيا بلدٌ مليءٌ بمقابر جماعية لأنصار الجمهورية الإسبانية. وكان هناك، وما يزال، الآلاف منها -بما في ذلك مقابر تحمل رفات الألوية الأممية، التي تم نبش قبورها والعبث فيها بعد انتصار فرانكو في الحرب.

كان إميليو سيلفا هو من بدأ أول عملية استخراج جثث الضحايا. وكان يسعى للعثور على رفات جده في قرية بريارانزا ديل بيرزو شمال غرب إسبانيا. وفي خضم هذه العملية، أطلق حركة اجتماعية إسبانية تطالب بمعرفة حقيقة ما جرى في الماضي القريب.

يذكر سيلفا في مقابلة أجريت معه مؤخرًا: "ما أردته هو دفنه مع جدتي والعودة إلى حياتي الصحفية. ظننت أنني سأعود إلى ما كانت عليه الأمور قبل العثور على المقبرة الجماعية، لكن كل شيء أصبح لا يُقهر".

ومنذ ذلك الحين، تم اعادة دفن آلاف الجمهوريين الذين قُتلوا بشكل لائق، على الرغم من أن التقديرات تشير إلى أن رفات أكثر من 100 ألف من "المختفين" في إسبانيا ما تزال مجهولة الهوية.

وبفضل هذه الحركة الجماهيرية الهادفة إلى استعادة الذاكرة التاريخية، بذلت حكومات حزب العمال الاشتراكي الإسباني بقيادة خوسيه لويس ثباتيرو حكومة تحالف يسار الوسط الحالية برئاسة بيدرو سانشيز جهوداً جديرة بالثناء لمساعدة إسبانيا في التعامل مع جرائم فرانكو.

تم إقرار قوانين تنظم التعامل مع الذاكرة والظلم القديم، وعالجت قضية المقابر الجماعية. وأبدلت أسماء الشوارع التي تُمجّد الفاشيين. ونُقل جثمان فرانكو من الضريح البشع الذي بناه لنفسه بعمالةٍ قسرية من الجمهوريين شمال غرب مدريد. ورُحّب بالمنفيين والمشاركين في الألوية الأممية وذريتهم كمواطنين إسبان.

وليس من المستغرب أن يقاوم حزبا فوكس اليميني المتطرف وحزب الشعب المحافظ كل هذه التحركات، حيث ألغت السلطات الإقليمية، بقيادة الحزبين، قوانين الذاكرة ورفضت تحديد مواقع المقابر الجماعية وحمايتها. ومع ذلك، وكما أشار أحد المؤرخين، فإن إسبانيا هي الدولة الوحيدة في أوروبا الغربية التي يُمكن فيها حفر حفرة عشوائيًا في الأرض والمخاطرة باستخراج رفات بشرية.

محاولة لإلغاء الذاكرة

ومع ذلك، فإن صعود اليمين المتطرف اليوم يُثير التساؤلات حول قسوة النظام الذي عاث فسادًا في إسبانيا لأربعة عقود. وعلى الرغم من ذلك بدأنا نسمع اليوم أن فاشية فرانكو لم تكن سيئة للغاية، ولم تكن استثنائية، بل كانت ديكتاتورية ناعمة. وبدأنا نسمع، بصوت أعلى من أي وقت مضى، همس المُنكرين. بدأ خطابٌ يترسخ، لا يدافع عن فرانكو تحديدًا، بل يُصوّره كنظام "ناعم"، وينكر الطبيعة الإجرامية والمنهجية لقمع فرانكو، أو يُقلّل من شأنها، أو يُزيّنها. لم يعد الأمر مجرد هتافات "يحيا فرانكو"، رافعين الأذرع وحاملين القمصان الزرقاء (قمصان الكتائب الإسبانية، النسخة الإسبانية من القمصان السوداء لموسوليني). بل أصبح الخطاب أكثر دهاءً.

اليمين المتطرف يُثير الشكوك حول التوافق السائد بشأن الإرث الفاشي، حتى تحول الهمس إلى جزء عادي من النقاش. ويُعدّ الخلاف حول الذاكرة أحد ساحات معاركه (كما هو الحال في إيطاليا والأرجنتين والمجر)، لقد فُهم هذا النهج، حتى الآن، علنا إنكار للماضي الإجرامي للفاشيات من قبل ورثتها، إلا أن الخطوة التي يخطوها هذا الهمس الرجعي يبدو أن لها غرضًا آخر، والذي يمكن اختصاره فيما يلي: إذا سُلِّم بأن الديكتاتورية ليست أمرًا سيئًا، فإن فكرة الحكومة الاستبدادية تُصبح أكثر قبولًا في المجتمع. ويصبح الأمر عاديا.

لحظة الغرب الرجعية

من الركائز الأساسية للفاشية في الماضي، ولليمين المتطرف اليوم، ربط الديمقراطية بسوء الحكم أو الفساد. ونموذجها هو ما أطلق عليه فيكتور أوربان (وأنشأه) في المجر اسم "الديمقراطية غير الليبرالية"، وهو تعبير مُلطّف يُخفي وراءه استبدادًا انتخابيًا. وهنا يأتي الهجوم على الذاكرة الديمقراطية، خشية أن تعرف الأجيال الشابة حقيقة الفاشية، والهدف هو طمس حقيقة حكومات اليمين المتطرف الاستبدادية لجعلها أكثر قبولًا.

الحقائق معروفة جيدًا، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يقللون من شأن الطبيعة الإجرامية لنظام فرانكو، من الجيد أن نتذكرها، وندافع عن هذه الذاكرة، ونستمر في التفكير في كيف كان ذلك ممكنًا:

لم تجفّ الدماء من على يدي فرانكو. فبعد أن شنّ الحملة العسكرية التي أشعلت الحرب الأهلية في البلاد عام ١٩٣٦، تسلّم السلطة على جثث الضحايا من الجمهوريين واليساريين والنقابيين الذين أُعدموا بإجراءات شكلية سريعة.

لقد اختفى 115 -130 ألف وتمت تصفية 150 ألف؛ واختطف 30 ألف طفل؛ وهناك 2800 مقبرة جماعية (أكبرها، وادي الشهداء، يضم رفات أكثر من 30 ألف شهيد)؛ ونصف مليون منفي؛ وما يصل إلى 300 ألف سجين سياسي في بداية النظام العسكري وحده. تُعدّ إسبانيا ثاني دولة في العالم من حيث عدد المختفين في الخنادق. جميع هذه الأرقام مستمدة من تحقيق القاضي غارزون، والتي يُمكن أن نضيف إليها تحقيقات خافيير رودريغو: 188 معسكر اعتقال أُقيمت في إسبانيا بعد الحرب الأهلية؛ وتحقيقات جوليان كازانوفا، الذي قدّر أن 50 ألف من الشيوعيين تمت تصفيتهم بين عامي 1939- 1946. انتصر الفاشيون عام ١٩٣٩ بفضل القوات والطائرات والأسلحة التي أرسلها هتلر وموسوليني، وعندما قصفت طائراتهم بلا رحمة غرنيكا وبرشلونة ومدريد، صُدم العالم.

اقرأ الرقم الأخير مرة أخرى. في مقالها الرائع "فن استحضار الذاكرة"، 2024، تُعرّف المؤرخة إستر لوبيز بارسيلو نظام فرانكو بناءً على هذا الرقم: "أرست عمليات الإعدام الجماعية في السنوات الأولى من الديكتاتورية أسس الدولة الجديدة". إن معطيات القمع الذي مارسه فرانكو ليست سوى غيض من فيض الخوف الذي بُنيت عليه الديكتاتورية. ومن الجيد أن نتذكر هذا في بلد لم يحاكم المسؤولين عن جرائم النظام الفاشي.

كانت الأرجنتين إحدى الدول التي فعلت ذلك. ففي الرابع والعشرين من آذار من كل عام، تُقام مسيرات حاشدة في مدنها تخليدًا لذكرى 30 ألف اختفوا خلال فترة الدكتاتورية العسكرية. واليوم، يخفض الرئيس الفاشي ميلي، تماشيًا مع ما سبق، العدد إلى 8 آلاف فقط، ويُقلل من شأن إحدى أكثر عمليات القمع دموية في القرن العشرين. يهتف الحشد: "هناك 30 ألفًا"، في جدل لا يدور حول الأرقام، بل حول المستقبل.

في مقال إستر لوبيز بارسيلو الذي تم ذكره، تجد فكرةً مهمة تربط بين مختلف طرق فهم الذاكرة. تُخبرنا أنها زارت، أثناء وجودها في بوينس آيرس، أحد أسوأ مراكز التعذيب في بلد المختفين: "كنت أعلم أنني في ملجأ، في مكانٍ لا يزال يسوده جوٌّ من العنف، لكنني لم أكن أُدرك تمامًا أنني في منطقةٍ مُطوّقةٍ بخبراء الطب الشرعي: مسرح جريمةٍ كانت وما تزال قيد التحقيق القضائي. لا تلوموني. كان عليّ أن أقول لهم: "أنا من هذا الشذوذ". إسبانيا، مسرح الجريمة المثالية. تلك التي أُخفيت عنا حتى تجاهلناها. حتى صدّقنا أنها لم تحدث. أنها لم تحدث أبدًا. أنا من بلد الجريمة التي لم تحدث".

في إسبانيا يعلم الناس أن هذا ما حدث، وشرع فيها قانون خاص بالذاكرة التاريخية، ومع ذلك... في بلدة بويرتا ديل سول، لا توجد أي علامة على التعذيب، ولا حتى لوحة تحت النافذة التي يعلم الجميع أن جوليان جريمو، الزعيم الشيوعي الذي قتله النظام، مدفون تحتها.

 

استحضار الذاكرة يرهب الفاشيين الجدد

لكسر الرواية التي تصف نظام فرانكو بالديكتاتورية الناعمة، لا بد من الحديث عن الذاكرة الديمقراطية، والاعتراف بالخوف الذي تُثيره المقابر الجماعية. والحقيقة أن ما يُحطم الفاشيين حقًا، وما يُبدد الهمس الرجعي القائل "لم تكن ديكتاتورية سيئة"، هو القيام بذلك من منظور يُسائلهم، ويُشير إليهم، ويُخبرهم من الحاضر أن هذا الجرح ما يزال يُؤلم، وأن الأكثرية تريد أن تبني عليه مستقبلًا لن يتكرر فيه هذا الجرح أبدًا.

 

ذاكرة للمستقبل

يقول إنزو ترافيرسو، بفكر ثاقب دائمًا "علينا أن نتعلم بناء ذاكرة مقاومة". وللقيام بذلك، يجب إخراج المهزومين من "تلك الجريمة الكاملة التي هي قمع فرانكو"، على حد تعبير لوبيز بارسيلو.

باستخدام التعليم كأداة للمستقبل، لأن الجيل الذي لا يعرف، والذي لا يدرك، محكوم عليه بتكرار التاريخ. يجادل اليمين المتطرف في الذاكرة لفتح المجال أمام حكم استبدادي في أفق التوقعات. فلنواصل إذًا الجدل في ذاكرة المقاومة من الحاضر حتى نبني أفقنا من منظور مختلف: جوهره فكرة أن الفاشية لن تعود أبدًا.