اخر الاخبار

تضجّ وسائل التواصل الاجتماعي منذ أيام بالكثير من الكتابات حول أسباب عدم حصول القوى المدنية، وحزبنا الشيوعي العراقي، على مقاعد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ورغم أنّ الأوليغارشية الحاكمة، قد انتهزت الأمر لشنّ هجوم بشع مليء بالحقد والتضليل وقلب الحقائق واستلال الأكاذيب من جعبة البعثفاشيين والدكتاتوريين وأسيادهم ضد الحزب واليسار والقوى الديمقراطية عمومًا، فقد كان خلوّ مجلس النواب الجديد من أي صوت مدني ثقيلًا، ليس على المدنيين وحدهم، بل على أبناء شعبنا الطامحين إلى التغيير والخلاص من منظومة المحاصصة والفساد والسلاح المنفلت، مما يستلزم إجراء مراجعة جادّة لمجمل النشاطات والخروج بتقييم علمي، صريح وعاجل، يدفع قُدمًا بمسارنا الكفاحي ويعزّزه، وهو ما أكّد عليه بيان اللجنة المركزية للحزب الصادر غداة الانتخابات.

وإذ تكتسب مهمة تمتين وحدة المناضلين، بمختلف تصوراتهم، أهمية استثنائية تمنحها الأولوية على المراجعة، فإنها يجب أن تقترن بتفعيل إسهامهم جميعًا، وبمختلف مواقعهم التنظيمية، في تشخيص الثغرات ومعالجة الأخطاء من جهة، وبمواصلة التجديد من جهة أخرى، بوجهيه المترابطين: القراءة السليمة والجريئة للواقع، والتمسّك بوحدة الإرادة والعمل، دون أن ننسى بأنّ غياب أي منهما سيجعل من التجديد عملةً مزيفة.

وكي نتخلص من الحجب التي تمنعنا من رؤية الأخطاء والخطايا وهي تتسلّل إلى باحة الدار، يجب مراقبة ومعالجة أي مظهر من مظاهر الجمود أو ادعاء العصمة، والتمرّن المستمر على الإصغاء للآخرين، ولا سيما النقّاد الحقيقيين من صادقي النية.

لقد وصفت بعض الكتابات التي ناقشت نتائج الانتخابات، وربما في لحظة غضب غير عقلاني، الناخبين بالتخلف، وهو وصف غريب حقًا بالنسبة لنا نحن الشيوعيين، الذين عُرفنا عبر السنين كقوة سياسية أكثر ثقة وحرصًا واحترامًا للشعب، والمتفرّدة ببرامجها للتنوير والتحديث. ولهذا فإن تدني وعي بعض الناخبين - كالذي باع بطاقته أو ارتضى التصويت لظالميه ومستغليه - ينبغي أن يحفّزنا على تكثيف جهودنا في تنمية الوعي وتبصير المضطهدين بدرب خلاصهم.

وإذا ما كانت مهام التحديث تتطلّب قراءة المتغيرات في البنية الاجتماعية إبان حكم الدكتاتورية، أو في سنوات خليفتها المأزومة، منظومة المحاصصة، وما تركته من تأثيرات قاسية على وعي جماهيرنا، فإن تقييمنا الدوري لمدى دقة هذه القراءة ومراجعتنا للبرامج النضالية التي تتعامل مع تلك المتغيرات، هو الضامن لتطوير عملنا وإذكاء وعي الناس بحجم الاستبداد الذي يتحكم بهم وعمق الاستغلال الذي ينهش حياتهم.

ويأتي في مقدمة تلك المتغيرات اتساعُ ظاهرة البطالة في صفوف العمال وما سببته من تردٍّ في أوضاعهم وتحول الآلاف منهم إلى البحث عن مصادر بديلة للعيش في شتى المشاريع الهامشية، مما أفقدهم الثقة بالنفس وبالنشاط النقابي والسياسي، وجعلهم أسرى الخوف من فقدان العمل والانضمام إلى صفوف المهمشين. كما أدى الجفاف ونقص الاستثمارات في الزراعة، وإغراق السوق بالسلع الأجنبية، وتغوّل رؤساء العشائر وبقايا الإقطاعيين، إلى تنامي جيش العاطلين في الريف، وتحول فلاحيه إمّا إلى نازحين يُغذّون شرائح المهمشين في المدينة، أو إلى أشباه أقنان يتبعون مستغليهم، إضافة إلى انتقال أقلية منهم إلى مصافّ البرجوازية الطفيلية بعد مسيرة قصيرة في تهريب المخدرات والسمسرة، خصوصًا في المنافذ الحدودية أو في القضايا العشائرية أو النشاط المسلح. وفيما تآكلت الطبقة الوسطى ونمت شرائح جديدة منها مرتبطة بقوة بالدولة الريعية وحريصة على ديمومتها وتجنب الخلاف معها، اتسعت أعداد المهمشين غير المتجانسين، المشبَعين بالأفكار الغيبية وتلك التي تحتقر القانون ولا تؤمن بالمؤسسات، وتدفعها مشاعر الخوف والحرمان والقلق إلى تبني خيارات سياسية سريعة ودعم القوى ذات النفوذ والسطوة.

وقد أسفر ذلك كله عن تقلّص دور الرافعة الاجتماعية للتنوير، وهي الحاضنة الأهم لأي خطاب تغييري وتنموي، وبالتالي الى هيمنة قوى طائفية وإثنية وعشائرية تعزز صعود الولاءات الضيقة على حساب الهوية الوطنية، وتقدّم قضايا التعصب الطائفي والحماية الأمنية على الحرية والعدالة، وتشجع التنافس الشرس على الموارد، وتشرعن السلوكيات المنافية للقيم الاجتماعية والروحية بزعم الحاجة، وتكرّس الفردانية، وتستغل ظروف الحرمان لفرض تكيف قسري على الناس لقبول بدائل مزيفة عن مستلزمات الحياة الآدمية. كما تسعى إلى تكريس ثقافة التخلف والفساد والجشع، وتسفيه قيم التضحية والإيثار والتطوع والتضامن، وبالتالي تغيير دافع التصويت من البحث عن المصلحة الوطنية والطبقية إلى السعي لاغتنام منفعة ذاتية آنية.

ومن نافل القول التأكيد أن مواجهة هذه المتغيرات بنجاح تستلزم تطوير الخطاب السياسي والنشاط الفكري وخطط التعبئة الجماهيرية، وتحديثًا شاملًا لأساليب الدعاية والأدوات الإعلامية، في تناغم دقيق مع إحداث نقلة نوعية في الحياة الداخلية، تنهي أي رواسب بيروقراطية، وتجمع بين حماسة الشباب وحكمة الشيوخ، وتكون جذابة للشبيبة ومقنعة لهم لخوض غمار السياسة، وتمنح الحزب مرونة أكبر في التعامل مع الأحداث السياسية والأمنية. وبما أنّ مناقشة كلّ هذه النقاط أوسع من الحيّز المتاح، يمكن الإشارة إلى بعض الأمثلة:

• لقد نجح حزبنا في التشخيص الدقيق لشكل ومضمون الدولة المدنية الديمقراطية التي تنقذ العراق من الخراب، لكن هذا التشخيص لم يخضع للتطوير المناسب على ضوء المتغيرات التي حدثت خلال العقدين الأخيرين، كما أننا لم نفلح تمامًا في تضمينه في خطابنا بسبب بقائه مغرقًا بلغة نخبوية يندهش البعض عند سماعها، وافتقاده إلى التفاصيل العملية القادرة على تعبئة الناس.

• إن الموقف السليم والثابت لحزبنا في رفض الاستبداد وأي حجج تبرره كمناهضة الإمبريالية أو المحافظة على بعض الإنجازات المحدودة على طريق العدالة الاجتماعية، بقي أسير الشعار، ولم يتسع إلى التصدي الحازم والمتعدد الأشكال لأي انتهاكات للحريات وحقوق الإنسان مهما كان شكلها ومصدرها، أو تعبئة الناس في حركات شعبية واحتجاجية ضد أي انتقاص لكرامتهم وحقوقهم، إضافة إلى تثقيف الناس بالفروق الجوهرية بين موقفنا هذا وبين أطروحات "الليبراليين" وأتباع العولمة المتوحشة. ولا بد هنا من الاعتراف بقصورنا في هذا الأمر إلى درجة التبس معها موقفنا حتى على بعض اليساريين من هواة الظهور في فضائيات الثرثرة.

• ورغم التجربة التاريخية الثريّة لحزبنا في العمل الجماهيري وتنظيم الناس في منظمات مهنية ونقابية، فإن سنين طويلة من القمع الدموي والسجل البشع للمنظمات المشابهة التي استخدمتها الدكتاتورية الفاشية والاحتلال الأمريكي والأوليغارشية الحاكمة اليوم، أضرّت كثيرًا بهذا الميدان الرئيسي والخطير، الذي يشهد غيابًا مؤسفًا وغريبًا للقوى المدنية ودورًا خجولًا ومترددًا للشيوعيين. وهو ما يتطلب وقفة جادة يتبوأ فيها المناضلون مواقعهم في ساحات العمل النقابي، لا كقيادات وهيئات إدارية، بل كطليعة ميدانية تستمع لمشاكل المنتسبين وتبصرهم بالحلول وتقودهم لتحصيلها، وتشيع الحياة الديمقراطية داخل النقابات، وتثقف الناس بدورها المهم في حياتهم، وتجذبهم للمساهمة في النضالات الديمقراطية دفاعًا عن حقوقهم، وبالتالي تحويلها إلى معاقل للمكافحين من أجل الحرية والعدالة.

• إن تعزيز القدرة على التصدي لحملات التشويه الشريرة ومنعها من بثّ شيء من اللايقين والقلق في العقول، يرتبط بالمراجعة الدقيقة والواثقة لكل شيء: الفكرة، والسياسة، والتنظيم، والعلاقات، وذلك عبر تطوير إنتاج فكري قادر على التفاعل بوضوح مع أسئلة الناس، وخاصة الشباب منهم، وتطوير السياسة العامة أو تغييرها لضمان ألق الخط اليساري الثوري الواضح المعالم، المناهض للإمبريالية والليبرالية، الكلاسيكية منها والجديدة، والرسملة، والمتفاعل بقوة مع قضية استقلال البلاد وتحررها من الاحتلالات، وتحقيق العدالة الاجتماعية لشعبها، والمساهمة بنشاط في الكفاح الأممي ضد العبودية والعنصرية والحرب وتخريب البيئة. وأخيرًا عبر تغيير جذري في آليات العمل التنظيمي بما يجمع بين الانتماء والقناعة الحرة من جهة، وبين الانضباط والالتزام الطوعي من جهة أخرى، ويعزز التضامن، وينجح في إدارة الصراعات والاختلافات لصالح وحدة الإرادة والعمل، وتعبئة المزيد من المناضلين، دون إغفال الحكمة اللينينية  "من الأفضل أقلّ شرط أن يكون أحسن"، وإيلاء اهتمام أكبر باصطفاء الكادر، وفق تزكيات العقل الجماعي للحزب، بغية اختيار مؤهلين لحمل النسغ الصاعد والنازل، بين القاعدة والقيادة بشكل فاعل ومثمر.

وفي الختام، أودّ أن أشير إلى أن المشاركة في هذه الانتخابات لم تكن سوى نشاطًا سياسيًا غير منتج. ولهذا لا أتفق مع القول بوجود "شامتين" بنتائجها؛ فالجميع يدرك أننا لم نُصَب بكارثة ليشمت بنا الأعداء، ولم ولن يقدروا على ذلك. كما أنّ سهام النقد لسياستنا جاءت إمّا من مخلص، نفترض حتى في قسوة تقديراته نية صادقة، وإما من عدو حقود يجب أن نحصّن أنفسنا من حقده، بوحدتنا واستنهاض قدراتنا وعودتنا القوية كطليعة ثورية لشعب يستحق أن نفخر بالانتماء إليه، وهو الذي طالما افتخر بالشيوعيين أبناءً بررة وأوفياء.