اخر الاخبار

منذ الاحتلال الامريكي والمتحالفين معه عام 2003، جرت ستة انتخابات تشريعية حتى الآن تخص مجلس النواب العراقي. كما جرت لنفس الفترة أربع دورات انتخابية لمجالس المحافظات العراقية. وخدمت نتائجها بالمجمل الأهداف التي رسمها مشروع الإمبريالية الأمريكية السياسي والاقتصادي والتي يمكن تلخيصها بما يأتي: (1- تحطيم الأسس والقواعد التي استندت اليها الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921 وتحويلها إلى دولة فاشلة تديرها مجموعات ما تسمى بالدولة العميقة. 2- تكريس التبعية الاقتصادية باعتماد اقتصاد السوق المنفلت، وتعزيز ريعية الاقتصاد العراقي. 3- تكريس التبعية السياسية سواء للولايات المتحدة الامريكية والقوى الرأسمالية الكبرى الأخرى أو إلى إيران ودول خليجية معروفة. 4- تحويل الفساد المالي والإداري إلى غول ابتلع الدولة والمجتمع العراقي على حد سواء .5- تعمق ظواهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي ونشر الخرافة والأفكار الظلامية ليس بين البسطاء من الناس فقط وانما تحول إلى ظاهرة خطيرة تشمل "الأكاديميين" و"شرائح واسعة محسوبة على المثقفين والمتعلمين.

باستثناء الحزب الشيوعي العراقي فإن اغلب أطراف المعارضة العراقية وقفت إلى جانب تكتيك اسقاط دكتاتورية صدام عبر الاحتلال الامريكي وحلفائه، عدا تحالف القاعدة مع حزب البعث، وتحالف إيران مع التيار الصدري لتحقيق غايات معروفة لكل طرف على حدة. وما يجمع هذه الأطراف المساندة للاحتلال والمعارضة له هو انها جميعا لم تستند إلى تحليلات عميقة لظاهرة الاحتلال وتداعياته وانما بنيت جميع تلك المواقف استنادا إلى حساب الربح والخسارة وتغليب المصالح الشخصية والحزبية على المصالح الوطنية.

وهنا يبرز سؤال جوهري وهو: ما هي مواقف الحزب الشيوعي العراقي تجاه الاوضاع المعقدة جدا قبل الاحتلال وبعده؟

اولا: مواقف الحزب الشيوعي قبل الاحتلال؛ لا أريد الخوض في تفاصيل سياسة الحزب قبل الاحتلال ولكنني سأركز على قضيتين أساسيتين تجسدان سياسة الحزب في تلك الفترة وهما: القضية الاولى هي: المشروع الوطني الديمقراطي الذي طرحه الحزب خارطة عمل له ولقوى المعارضة وللشعب العراقي طريقا للخلاص من النظام الدكتاتوري البائس من جهة وبديلا ديمقراطيا عنه يمثل مصالح غالبية أبناء شعبنا من جهة اخرى. والقضية الثانية هي الشعار الذي رفعه الحزب مجسدا جوهر مشروعه الوطني الديمقراطي " لا للحرب، لا للدكتاتورية، نعم للبديل الديمقراطي ".

في الممارسة اثبتت تطورات الأحداث أنه لا المشروع الوطني الديمقراطي الذي طرحه الحزب ولا شعاره الرئيس لتلك المرحلة وجد طريقه للتنفيذ، لأن توازن القوى الدولية بعد انهيار التجربة الاشتراكية، وطبيعة اغلب قوى المعارضة العراقية كانت مع تبني خطة البنتاغون في اسقاط الدكتاتورية عبر استخدام القوات المسلحة الامريكية والدولية اي عبر الاحتلال الاجنبي لبلدنا الذي مهد الطريق لابتلاع العراق أرضا وإنسانا.

ثانيا: مواقف وسياسة الحزب بعد الاحتلال عام 2003: 

1- إن وثائق الحزب التي صدرت قبل وبعد الاحتلال تثبت بما لا يقبل الشك ان الحزب الشيوعي العراقي كان على دراية تامة بطبيعة الاحتلال الامريكي ومشروعه الاقتصادي والسياسي سواء ما يتعلق بربط العراق بعجلة العولمة الاقتصادية العالمية وتكريس تبعيته وفق تقسيم العمل الدولي في ظل القطبية الاحادية بعد انهيار التجربة الاشتراكية ، واخضاع النفط العراقي انتاجا وتوزيعا لسلطة المنظمات الدولية الخاضعة لإرادة الولايات المتحدة الامريكية ، وفتح الباب مشرعا امام الفساد والمحاصصات بأنواعها ، وخلق نظام سياسي تنهشه الازدواجية من كل جانب فهو نظام " ديمقراطي اتحادي"  في الظاهر ، دكتاتوري قمعي رجعي في جوهره . ويمكن للرفاق والاصدقاء الاستعانة بوثائق المجلس الحزبي السادس الذي أصدر ورقة اقتصادية ذات اهمية بالغة في تشخيص طبيعة العلاقات الاقتصادية بعد الاحتلال، ووثيقة " رؤى اقتصادية " التي طورت وانضجت من تحليلات الحزب الاقتصادية والسياسية لظروف ما بعد الاحتلال، اضافة إلى التقارير السياسية التي صدرت عن مؤتمرات الحزب واجتماعات اللجنة المركزية.

إن من أهم وظائف قيادة أي حزب شيوعي هي رسم السياسة وفق المنهج الماركسي الذي يستند إلى مجموعة اسس ومبادئ وعلى رأسها: تحديد طبيعة المرحلة التي يمر بها البلد في اللحظة التاريخية الملموسة، ومن خلال تحديد طبيعة المرحلة يرسم الحزب مخططا متكاملا للوحة الطبقية، ثم يحدد طبيعة التحالفات التي يقوم بها، ثم يحدد أسلوب الكفاح الذي يتبناه على ضوء تحليله للوحة الطبقية ويحدد المهام الاستراتيجية والمرحلية والشعار الذي يجسد خطه السياسي.

إن أي خطأ في التحليل سواء في طبيعة المرحلة او في تحديد الحلفاء من الخصوم او الارتباك في تحديد اسلوب الكفاح سيؤدي إلى كارثة تطحن الحزب والشعب على حد سواء، مثلما حصل في إندونيسيا عام 1965 والعراق عام 1963، ومصر بداية الستينيات الخ.

من المثير للجدل والاستغراب أن الحزب الشيوعي العراقي اعتبر مرحلة ما بعد انهيار الدكتاتورية عام 2003، مرحلة انتقال ديمقراطي، تختلط فيها المهمات الوطنية بالديمقراطية والداخلية بالخارجية. وهذا أمر مستغرب من الناحية السياسية اولا ومن ناحية تحليل ظاهرة الاحتلال الامريكي ثانيا ومن تحليل طبيعة القوى المؤثرة في ظروف ما بعد الاحتلال. فعن اي ديمقراطية نتحدث في ظل هيمنة أمريكية وعن اي انتقال نتحدث في ظل تبعية اقتصادية وسياسية. وكان هذا التشخيص والتحليل خطأ جسيما وقاتلا ترك تأثيراته السلبية على حركة الحزب بين الجماهير وخصوصا الشباب، وهو العامل الذي تكمن خلفه ظواهر ابتعادنا عن الجماهير. فالجماهير بحسها العفوي تدرك بشكل جيد الدور الذي لعبه الاحتلال الامريكي في تدمير العراق، واي حزب سياسي او تيار يتعامل مع الاحتلال يفقد ثقة الجماهير به.         ارتباطا بالتحليل السابق تعامل الحزب ايجابيا مع ما يسميه بالعملية السياسية، إذ أصبح الحزب جزءا من مجلس الحكم وتسنم حقائب وزارية ووظائف بدرجات مختلفة واشترك في الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجالس المحافظات بالرغم من علمه بأن قوانين الانتخابات والمفوضية وجميع مؤسسات الدولة موظفة لغرض ترسيخ التخلف والتبعية في بلادنا للهيمنة الامريكية والاقليمية.

لكي ينهض الحزب من جديد عليه ان يراجع بجدية سياسة الحزب وخطه السياسي منذ 2003، فمرحلة ما بعد 2003 هي مرحلة تكريس تبعية العراق اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا وضمه إلى ما يطلق عليه الأمريكان في مصطلحهم السياسي (The Grand Area (وهي المنطقة الكبرى) وتعني جميع الدول التي تخضع للسيطرة الاقتصادية الامريكية وتقاد من قبل قادة محليين تابعين للأمريكان ومهمتهم إضافة للتبعية فانهم يقمعون اي حركات يسارية. وان يعلن الحزب بشكل واضح تخليه عن مفهوم مرحلة الانتقال الديمقراطي في ظل الهيمنة الامريكية وتحت قيادة الاسلاميين والشوفينيين والمتعلمنين.

ومن خلال الاستناد إلى منهجنا الماركسي؛ إن المرحلة التي يمر بها العراق منذ الاحتلال إلى وقتنا الراهن هي مرحلة تكريس التبعية السياسية والاقتصادية للإمبريالية الامريكية وعولمتها المتوحشة ، والقوى المحركة لهذه المرحلة هي الاحتلال وحلفاؤه في الداخل والخارج ، من البرجوازية الكومبرادورية والبيروقراطية بشقيها العسكري والمدني والبرجوازية الطفيلية ، وكل هؤلاء تلفعوا بأغطية مختلفة ليظهروا أنهم متصارعون طائفيا واثنيا ومناطقيا وعشائريا لكنهم في الحقيقة موحدون على قضية واحدة وهي " تفليش البلد " كما أطلقها محمود المشهداني.

استنادا إلى التحليل السابق تقف أمام الحزب والشعب (جميع الطبقات والفئات والشرائح المتضررة من المشروع الامريكي) ثلاث مهمات رئيسية هي: المهمة الاولى هي النضال من اجل استقلال العراق وتحريره من الاحتلالات الاجنبية. والمهمة الثانية هي النضال من أجل التخلص من التخلف والتبعية الاقتصادية والاجتماعية. والمهمة الثالثة هي النضال من أجل تحالف المتضررين؛ العمال والفلاحين والصغار الضباط والجنود والبرجوازية المحلية المتضررة من العولمة ونتائجها المدمرة لهم والمثقفين الساعين لبناء عراق مستقل حر بعيد عن التبعية.

من دون هذه المراجعة النقدية ووضع سياسة وخط جديدين للحزب، ومن دون فتح حوار واسع وعلني مع الرفاق والاصدقاء لن يستطيع الحزب ان ينهض بنفسه لمواجهة أعتى تحالف مضاد للتنوير يواجهه الحزب منذ تأسيسه. وما يجعل هذه المراجعة التزاما حزبيا هو القرار الصادر من المجلس الحزبي السابع المتعلق بتشكيل لجنة لتقويم سياسة الحزب منذ التغيير في 2003 إلى الوقت الراهن..