اخر الاخبار

قيل الكثير، وربما سيقال ما هو أكثر، بشأن نتائج انتخابات تشرين الثاني 2025. ففي وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تمتد أمامنا لوحة واسعة من الآراء والتحليلات والتعليقات. ومن الطبيعي أن تضم هذه اللوحة طيفا متنوعا من المواقف في اتجاهات تمتد من تخطئة مشاركة الحزب الشيوعي والقوى اليسارية والمدنية في الانتخابات اعتمادا على حقيقة كونها غير ديمقراطية وبعيدة عن النزاهة. وتمر هذه الاتجاهات عبر الشماتة بالحزب الشيوعي، بل ومطالبة البعض بحل الحزب نفسه، بزعم أنه "مات سريريا"، أو "عفا عليه الزمن" في أحسن الأحوال. وارتباطا بذلك لا يتوهم منصف أن الحملة المعادية للحزب حملة غير متوقعة، ومن غير المعقول ولا المنطقي الظن بأن خصوم الحزب سيلقون أسلحتهم. وتصل هذه الاتجاهات الى أن هزيمة "ماحقة" حلت بالشيوعيين والمدنيين! 

انفتاح على الرأي الآخر

وأيّا كانت طبيعة هذه التباينات في الرأي والتحليل، فان ضرورة التقييم النقدي والموضوعي والجريء لنتائج الانتخابات تستدعي، من بين أمور أخرى كثيرة، عدم إغفال أي من هذه الآراء، حتى تلك التي تنطوي على التشفي والشماتة (مستثنين، بالطبع، تلك المواقف العدائية المسبقة والحاقدة، وبعضها مليء بالشتائم، واللغة الهابطة والنظرة السطحية، وتلك التي تدعو، بأشكال مختلفة، الى إلغاء وجود الحزب الشيوعي).

ومن نافل القول إنه ما من راجح عقل كان يتوهم بأن هذه الانتخابات ستغير الواقع المأساوي القائم بعصا الساحر.

نحن إذن، والحال هذه، بحاجة ماسة الى نقاش واسع، متعدد الأشكال والمستويات، سواء داخل الحزب الشيوعي، أو مع القوى اليسارية، أوالقوى المدنية، ومع الناس بشكل عام، وخصوصا الحريصين والقادرين على تقديم تحليلات عميقة ونقدية بناءة لا غنى عنها في عملية التقييم.

لابد من حوار جاد ومسؤول ومنفتح، بعيدا عن التهيب من الحقائق، والتبريرات، والتخندق، والعقل الجامد. نحن بحاجة الى تحليل ما جرى بطريقة علمية وواقعية، لا تخشى النقد، ولا تستسلم لليأس.

نحن، اليوم، أمام تراجع وانتكاس، وليس من المبالغة القول إننا نواجه هزيمة. ويهدف هذا المقال الى تقديم مداخلة أولية في العودة الى الينابيع لاستلهام دروس الخبرة الثورية كجزء من المساهمة في تقييم نتائج الانتخابات، وتحديد منطلقات ومهمات العمل اللاحق.

وفي عملية التحليل لابد، أولا، من الاعتراف بحقيقة ما جرى من إخفاق، دون خشية من إطلاق سمة "الهزيمة" على ما جرى، ولابد، ثانيا، من تحليل الحقائق بمنهجية علمية وواقعية، والخروج، ثالثا، باستنتاجات نستند إليها في عملنا على أسس سليمة مدروسة.

علينا أن نجيب، من بين أسئلة أخرى، على قضايا عديدة بينها: لماذا شاركنا في انتخابات لم نكن مستعدين لتحقيق فوز فيها حتى ولو بحدود متواضعة؟ ما هي مبررات المشاركة؟ وهل كان ينبغي علينا أن نقاطع؟ وما هي مبررات المقاطعة؟ لماذا عزوف الملايين ومقاطعتهم الانتخابات، وبينهم، يا للغرابة والأسى، شيوعيون، وكذلك يساريون وعلمانيون ومدنيون؟ وما الذي قامت به منظمات الحزب ومرشحوه استعدادا للانتخابات؟ وأية مسؤولية عن النتائج يتحملونها؟ ما هو وضع القوى المدنية وصلاتها بالجماهير؟ وهل بوسعها، والحزب الشيوعي جزء أساسي فاعل فيها، أن تتحول الى معارضة حقيقية فاعلة؟ ؟ ماذا بشان القدرة على تعبئة الناس، وخصوصا الشباب والنساء،  وإمكانية إقناعهم بضرورة ممارسة حقهم الديمقراطي في انتخاب ممثليهم الحقيقيين؟ وما هي سمات الوضع الراهن، والطبيعة الطبقية للسلطة،  والتحولات في البنية الاجتماعية، وتأثير كل ذلك في الوعي السياسي؟ وكيف نفهم دور الثقافة السائدة والمهيمنة، ثقافة التخلف والفساد والمحاصصة والطائفية وشراء الأصوات؟ وما هو الدور الذي لعبه المال السياسي والإنفاق الباذخ على الدعاية الانتخابية – اكثر من 3 مليارات دولار - وامتلاك احزاب سياسية أذرعا مسلحة؟ ماذا عن سماح مفوضية الانتخابات بتوظيف اكثر من مليوني مراقب؟ وماذا بشأن التحالفات الانتخابية والسياسية، وارتباط ذلك بالأهمية الحاسمة للطبيعة الطبقية للحزب الشيوعي واستقلاليته؟ ... وقائمة الأسئلة لا تقتصر على ما ذكرناه، ولا ريب أن المتصدين لهذه المعضلة من الرفاق أو الأصدقاء أو المحللين لديهم أسئلتهم الملحة والهامة، التي ستسهم، بالتأكيد، في إضاءة اللوحة.

وفي هذا السياق يتعين علينا التذكير بالقضايا الأساسية التي تضمنها بيان اللجنة المركزية لحزبنا الصادر في الثالث عشر من تشرين الثاني، والذي جاء فيه إن "هذه هي المرة الأولى منذ عام 2003 التي يقصى فيها الصوت المدني على هذا النحو الواسع من البرلمان في مؤشر خطير على طبيعة البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جرت فيها الانتخابات". وإذ أكد البيان على "إدراك الحزب المقدمات التي سبقت هذا الاستحقاق، وما يكتنف العملية الانتخابية من اختلالات بنيوية، ومع ذلك خضنا المنافسة بهمة عالية وروح مسؤولة". وشخص البيان "أن ما أفرزته العملية الانتخابية كان نتاجا واضحا لهيمنة المال السياسي والسلاح، والمحاصصة، واستغلال النفوذ والسلطة وموارد الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية، وتأجيج النعرات الطائفية والنزعات العشائرية والمناطقية، وهو ما حوَل التنافس الانتخابي الى سباق غير متكافىء، أعيد فيه إنتاج ذات القوى المهيمنة والمصالح الضيقة". ويستخلص البيان "إن ما أفرزته هذه الانتخابات ينذر بمرحلة صعبة من استمرار التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويكرس احتكار السلطة والثروة بيد أقلية متنفذة، وتفشي الفساد في المجتمع ومؤسسات الدولة واستمرار انفلات السلاح". ومن الدلالة البليغة أن يختتم البيان بالقول "إننا سنجري عملية تقييم شاملة للانتخابات ونتائجها بغية الوصول الى استنتاجات مناسبة للعمل على تنفيذها في المستقبل القريب".

إن العودة الى الينابيع الماركسية تستدعي، من بين أمور أخرى، إضاءة عدد من الموضوعات من بينها: ماذا تعني الهزيمة؟ ولماذا شاركنا في الانتخابات؟ ولماذا لم نقاطع، وما هي الدروس المستخلصة من خبرة الحركة الثورية في هذا الميدان؟ 

لماذا المشاركة؟

ابتداء يتعين القول إنه من الخطأ الاعتقاد بأن البرلمان هو موضع السلطة الرئيسي. فالحراك الجماهيري، على أهمية البرلمان والنضال من داخله، هو أكثر أهمية من النشاط البرلماني.

ومن الخطأ، أيضاً، الاعتقاد بما يروّجه بعض "اليساريين المتثاقفين" من أن المشاركة في الانتخابات ليست سوى تزكية للقوى الحاكمة المتنفذة، وأن الطريق البرلماني الى التغيير هو اعتراف ببقاء سلطة المتنفذين.

من المعروف أن الاشتراكيين الثوريين في ألمانيا شاركوا في مؤسسات رجعية، وكذلك فعل البلاشفة في روسيا، رغم إجحاف قوانين الانتخاب. وشارك الثوريون في القرن العشرين، وفي مختلف أنحاء العالم، في انتخابات يصعب القول إنها نزيهة حقاً. ويشاركون، اليوم، في انتخابات المؤسسات "البرجوازية"، وهم يعرفون، تماماً، أنهم غير قادرين على استبدال تلك المؤسسات في هذه اللعبة الديمقراطية، لأن التوازن السياسي والاجتماعي لا يسمح، ببساطة، بالإخلال المطلوب بهذه الدرجة.

ولو أن الماركسيين يضعون شروط توفر "النزاهة" المطلقة في الانتخابات، ومنح المؤسسات التشريعية "صلاحيات حقيقية"، وعدم استخدام "المال السياسي"، وما الى ذلك من شروط يضعها "مثقفون يساريون" داعون الى المقاطعة، لما شارك أي ماركسي أو اشتراكي ثوري أو مثقف حقيقي في أية انتخابات في ظل دولة "برجوازية".

هل زكّى ثوريو ألمانيا (روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت) البرجوازية وجرائمها وانتهاكاتها، أم أنهم استثمروا مؤسساتها لفضح سياسات البرجوازية، وتمرين الشغيلة على الكفاح، ونشر الوعي السياسي، والتحريض على استثمار السخط والنضال ضد مسببي المعاناة ؟

متى نقاطع ؟

إذا كانت المشاركة هي، بوجه عام، الخيار الصحيح، وقد كان هذا رأي الماركسيين الحقيقيين على الدوام، فهناك ظروف معينة تكون فيها المقاطعة هي الخيار المناسب. فمتى يحدث هذا ؟

ابتداء يتعين القول إن موقف المقاطعة يجب أن يكون الاستثناء وليس القاعدة، وإن الظروف الاستثنائية التي تبرر شن حملة مقاطعة "ايجابية" هي عندما تكون مثل هذه الظروف جزءاً لا يتجزأ من التحضير لـ "انتفاضة ثورية"، وهذا الشرط غير قائم، بالطبع، في واقع بلادنا الراهن، ولا يسمح به التوازن السياسي والاجتماعي الحالي، مع التأكيد في الوقت نفسه على الاستنتاج البالغ الأهمية بأن العوامل التي أدت الى تفجر انتفاضة تشرين الباسلة في 2019 ما تزال قائمة مع تعمق الأزمة البنيوية لمنظومة حكم أقلية المحاصصة والفساد، ومخاطر تدهور الاقتصاد، واحتمالات تطور الأوضاع في ظل متغيرات إقليمية ودولية.

وكان البلاشفة في روسيا القيصرية أول من استخدم الانتخابات البرلمانية بشكل ثوري، حيث كان استقلالهم التنظيمي عن المناشفة يسمح لهم باستخدام البرلمان كمنبر للدعاية والتحريض.

ومعلوم أنه في أيلول 1905 دعا لينين الى مقاطعة مجلس الدوما (الذي دعا اليه القيصر لاحتواء الحركة الثورية، وكان ذلك مجرد مجلس شورى يستطيع القيصر حله في أي وقت) كجزء من الإعداد لانتفاضة مسلحة، وأقر البلاشفة اقتراحه. وبعد هزيمة التمرد في كانون الأول 1905 واصل البلاشفة دعم المقاطعة في انتظار تجدد الانتفاضة. لكن عندما تبين أن الانتفاضة المسلحة أصبحت غير ممكنة غيّر لينين موقفه في آب 1906، وأيد المشاركة في البرلمان، وخاض نضالاً مريراً من أجل ذلك، حتى وصل به الأمر الى التصويت، في مؤتمر للحزب عام 1907، مع المناشفة وضد بعض البلاشفة. واستنتج لينين: "مقاطعة نشطة .. تكون هي التاكتيك الصحيح في ظل طفرة واسعة وعالمية سريعة للثورة، آخذة في التطور الى انتفاضة مسلحة، وفي ظل غياب هذه الشروط تدعو التاكتيكات الصحيحة الى المشاركة في الانتخابات".

فأين تكمن صحة شعار المقاطعة عام 1905 وخطأه عام 1906؟ ولماذا صوت لينين مع المشاركة وبالضد من بعض البلاشفة عام 1907 ؟ الجواب لا علاقة له بعبقرية لينين أو عصمة البلاشفة، بل بالظروف الموضوعية التي رفع فيها شعار المقاطعة، والظروف الأخرى المختلفة التي جرى فيها التخلي عن شعار المقاطعة.

من ناحية أخرى  يجب الاعتراف بأنه مازالت هناك ثقافة سياسية سائدة لدى بعض "المثقفين" ممن يرون في كل أشكال العمل السياسي الشرعي مجرد مهادنة للنظام وإقرار بشرعيته.

ومن بليغ الدلالة أن نستذكر، هنا، ما قاله لينين في كتابه (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية) من أن "ما هو أصعب بكثير (من أن يكون المرء ثورياً عند اندلاع الثورة) وما له قيمة أكبر كثيراً، هو أن يكون المرء ثورياًعندما لا يتيح الوضع بعد نضالاً مباشراً ومكشوفاً وجماهيرياً حقاً وثورياً حقاً، وأن يستطيع الذود عن مصالح الثورة، بالدعاية وبالتحريض وبالتنظيم، وذلك في مؤسسات غير ثورية، بل وحتى رجعية بجلاء، في ظروف غير ثورية، وبين جماهير قاصرة عن أن تفهم في الحال ضرورة وجود منهج ثوري في النضال".

وتبقى المسألة الحاسمة، في هذا السياق، ليس العودة الى التراث الثوري والتجربة التاريخية حسب، وانما التقييم الواقعي للوضع الطبقي وميزان القوى الاجتماعي والسياسي، ووضع وتطبيق البرامج الفعالة في ضوء ذلك.

ومن المفيد، هنا، أن نشير الى ما كتبه انجلز في مقدمته لكتاب ماركس (الصراع الطبقي في فرنسا) عام 1895، اذ أكد أنه "اذا كانت المزايا الوحيدة للانتخابات الحرة هي أنها تسمح لنا بمعرفة أصواتنا وزيادتها، وتعزز ثقة العمال، وتتحول الى أفضل وسيلة للدعاية، وتحدد مستوى تحركنا لتلافي التأخر أو التسرع غير المناسبين، إذا كانت هذه هي مزية الانتخابات فانها "كافية"، لكنها فعلت أكثر من ذلك بكثير. ففي الدعاية الانتخابية تتاح لنا فرصة فريدة للتواصل مع الجماهير في المناطق التي مازلنا بعيدين عنها، وفي اضطرار الأحزاب الأخرى للدفاع عن مواقفها في مواجهة هجومنا أمام الجماهير". 

دروس من رسائل ماركس

إلى كوغلمان

لدينا اليوم، كما في كل حين، "أساتذة ماركسيون" يعتبرون مقاييسهم هي الأفضل، بل إنها، وحدها، الكمال بعينه، لاغين كل ما ومن يختلف معهم.

وعلى الرغم من أن كل رسائل ماركس الى لودفيغ كوغلمان (وهو ناشط سياسي الماني كان صديقا مقربا له) تتسم بأهمية بالغة لفهم الماركسية على نحو أعمق، فإننا سنركز على بعض ما يسميه لينين "سياسة ماركس الثورية"، كما ورد في المقدمة الغنية التي كتبها لينين للترجمة الروسية للرسائل.

من المعلوم أن ماركس كان قد أبدى حكماً قاطعاً حول ثورة 1848 الألمانية، ثم استنكر، بنفسه، عام 1850، أوهامه التي أبداها عام 1848 حول حدوث ثورة اشتراكية وشيكة. وفي عام 1866 حين أخذ يلاحظ تنامي أزمات سياسية جديدة كتب يقول في رسالة مؤرخة في 6 نيسان من ذلك العام: "هل يدرك أصحابنا التافهون، ضيقو الأفق (المقصود بهم البرجوازيون الليبراليون الألمان) أخيراً أن الأمر سيصل بنا، في آخر المطاف، الى حرب جديدة كحرب الثلاثين سنة، إذا لم تنشب ثورة تطيح بآل هابسبورغ وآل هوهنزوللرن ..."

وبعد ثلاث سنوات (أنظروا الى رسالة ماركس الى كوغلمان بتاريخ 3 آذار 1869) تحدث ماركس بحماسة حقيقية عن أن "الباريسيين أخذوا، حقاً وصدقاً، يدرسون ماضيهم الثوري القريب العهد استعداداً للنضال الثوري الجديد الذي يقترب". وبعد أن وصف ماركس النضال الطبقي، كما يبينه هذا التحليل للماضي، استنتج قائلاً: "هكذا تغلي قِدر التاريخ الساحر، فمتى نبلغ الحال عندنا (في ألمانيا)".

وهذا، كما يؤكد لينين في المقدمة، "ما ينبغي أن يتعلمه من ماركس أولئك الماركسيون المثقفون الروس، الذين أوهنهم الارتياب، وصيّرهم الادعاء بالعلم والمعرفة بلداء بلهاء، والذين يميلون الى خطب الندامة، ويتعبون من الثورة ويحلمون بجنازتها، كما يحلمون بعيد من الأعياد، مستعيضين عنها بنثر دستوري. ينبغي عليهم أن يتعلموا من نظري البروليتاريا وزعيمها الإيمان بالثورة، والطريقة التي ينبغي بها دعوة الطبقة العاملة الى الدفاع حتى النهاية عن مهماتها الثورية المباشرة، والصلابة الروحية التي لا ترضى بنحيب الوجل عندما تمنى الثورة بهزائم مؤقتة".

ما من منصف لا يقدر موقف ماركس المدهش من كومونة باريس وتقييمه اللاحق لها، ونتذكر قولة ماركس الشهيرة: "أية مرونة، أية مبادرة تاريخية، أية مقدرة على التضحية عند هؤلاء الباريسيين ... إن التاريخ لم يعرف، حتى الآن، مثالاً على بطولة كهذه ...".

من المعروف أن ماركس حذر، في رسالة شهيرة وجهها باسم الأممية، في أيلول 1870، أي قبل حوالي 6 أشهر من قيام كومونة باريس، العمال الفرنسيين صراحة وبوضوح قائلاً "إن الانتفاضة ستكون ضرباً من الجنون".

ولكن ماذا كان موقف ماركس عندما بدأ هذا المسعى اليائس، كما قال في رسالته في أيلول 1870، يتحقق في آذار 1871؟ هل استغل المناسبة، كما فعل "ماركسيون آخرون" اتخذوا موقف المثقفين النادمين في أحداث كانون الأول 1905 في روسيا، لمجرد إذلال خصومه البرودونيين والبلانكيين الذين قادوا الكومونة ؟ وهل بات أسير الجزع والتذمر والتشوش، ليوجه، كما فعل بعض "ماركسيي" روسيا مع مكافحي كانون الأول 1905، تلك التوصية التي تشبه توصية تافه ضيق الأفق، راضٍ عن نفسه: "لم يكن ينبغي حمل السلاح" ؟

كلا، ففي نيسان 1871 كتب ماركس الى كوغلمان رسالة زاخرة بالحماسة، "رسالة نكون سعداء لو علقناها في بيت كل اشتراكي ديمقراطي روسي، في بيت كل عامل روسي يعرف القراءة"، حسب تعبير لينين.

إننا لنرى، هنا، أعمق المفكرين، وقد تنبأ بالفشل قبل ستة أشهر، ينحني أمام مبادرة الجماهير التاريخية، بينما نرى في المقابل تصريح "ثوري" متحذلق يزعم أنه "لم يكن ينبغي حمل السلاح !".

وبوصفه مشاركاً في نضال الجماهير، ومتتبعاً لمراحله بكل الحمية والحماسة اللتين اتصف بهما، أخذ ماركس ينتقد من منفاه في لندن، الأعمال المباشرة التي يقوم بها الباريسيون "الجريئون حتى الجنون"، "المستعدون لاقتحام السماء".

وكتب ماركس في رسالته الى كوغلمان في 12 نيسان 1871 إنه "مهما يكن من أمر، فان الانتفاضة الباريسية، حتى ولو قضى عليها ذئاب المجتمع القديم وخنازيره وكلابه السافلة، هي أمجد مأثرة قام بها حزبنا منذ انتفاضة حزيران".

ومن المحتمل أن يكون كوغلمان قد أعرب في جوابه الى ماركس عن بعض الشكوك، مشيراً الى أن القضية يائسة، والى ضرورة التمسك بالواقعية لا بالرومانتيكية، مقللاً من شأن ودلالات وتأثيرات الانتفاضة الباريسية.

وسرعان ما وجه ماركس (في 17 نيسان 1871) تأنيباً قاسياً الى كوغلمان قال فيه: "قد يكون من السهل جداً صنع تاريخ العالم لو كان النضال لا يقوم إلا ضمن ظروف تؤدي حتماً الى النجاح".

عرف ماركس أن يرى أنه لابد من كفاح ضارٍ تخوضه الجماهير في بعض فترات التاريخ حتى في سبيل قضية يائسة، وذلك من أجل تثقيف الجماهير نفسها في ما بعد، ومن أجل إعدادها لجولات الكفاح اللاحقة.

وقيم ماركس هذه التجربة الفريدة على نحو في غاية الدقة والواقعية والأمل بالمستقبل، دون أن ينسى أبداً أنه، هو نفسه، أقر، في أيلول 1870، أن الانتفاضة ستكون "ضرباً من الجنون". فقد كتب في رسالته الى كوغلمان في 17  نيسان 1871 يقول "إن الأوباش البرجوازيين الفرساليين (قوة قصر فرساي) وضعوا الباريسيين أمام أمرين لا ثالث لهما: إما قبول التحدي للمعركة، وإما الاستسلام دون معركة. ولو تمت الحالة الأخيرة لكان تفسخ معنويات الطبقة العاملة كارثة أعظم بكثير من خسارة أي عدد كان من الزعماء".*      *      *

قال صديق لي: هنيئا للشيوعيين "حدائق الهزيمة" .. وهنيئا لخصومهم "مستنقعات الفوز بسلطة غاشمة"!

قلت: إذا كنا اليوم قلّة فلن يكون هذا الواقع مؤبَّداً .. وذكّرت بنيرودا الذي قال: لو أنهم اقتلعوا كل الأزهار، فانهم لن يستطيعوا أن يمنعوا حلول الربيع" ..