اخر الاخبار

يشهد العراق منذ سنوات موجة استيراد واسعة للبضائع والمنتجات الجاهزة من مختلف دول العالم، خصوصاً من تركيا وإيران، وهي ظاهرة اتسعت رقعتها بعد عام 2003 مع انفتاح السوق العراقية على التجارة الخارجية دون وجود ضوابط كافية أو حماية للمنتج المحلي. ورغم أن هذا الانفتاح وفر للمستهلكين تنوعا في السلع وانخفاضا في الأسعار، إلا أنه ألقى بظلاله الثقيلة على عمال المهن الحرة، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع المنتجات المستوردة الرخيصة.

صناعة محلية تنهار

قبل عقدين، كانت الأسواق العراقية تعج بالحرفيين وأصحاب الورش الصغيرة: النجارون، الحدادون، الخياطون، الحرفيون في الصناعات الجلدية والنحاسية، وغيرهم من أرباب المهن، الذين ورثوا مهاراتهم عن أجيال سابقة. أما اليوم، فالكثير من هذه الورش أغلقت أبوابها، وأصحابها تحولوا إلى أعمال أخرى أو انضموا إلى صفوف العاطلين عن العمل.

يقول أبو حيدر وهو نجار "كنا نصنع الأبواب والنوافذ بأيدينا، من الخشب العراقي، اليوم الزبون يفضل المنتج التركي الجاهز، سعره أقل وسريع التوريد، الأمر الذي أثر على منتجاتنا المحلية". ويرى أبو حيدر أن السبب لا يقتصر على رخص الأسعار، بل أيضا على غياب الدعم الحكومي، إذ لا توجد ضرائب تفرض على المستوردين ولا إعفاءات تشجع المنتج المحلي، مما يجعل السوق تميل تلقائياً لصالح البضائع القادمة من الخارج. 

منافسة غير عادلة

من الناحية الاقتصادية، يعتمد العراق بشكل كبير على الاستيراد لتلبية احتياجاته اليومية. وتشير بيانات وزارة التجارة إلى أن أكثر من 80 بالمائة من السلع المتداولة في السوق العراقية مستوردة. هذه النسبة المرتفعة خلقت منافسة غير عادلة مع المنتج المحلي، خصوصا في ظل ضعف البنية التحتية الصناعية وارتفاع تكاليف الإنتاج داخل البلاد.

الآثار الاجتماعية

إن تأثير الاستيراد لا يتوقف عند الجانب الاقتصادي فقط، بل يمتد إلى البعد الاجتماعي أيضا. فإغلاق الورش الصغيرة يعني فقدان مصدر رزق لعدد كبير من العوائل، خاصة في المدن التي كانت تعتمد تاريخياً على المهن الحرة مثل النجف، الكاظمية، الكوفة، والموصل القديمة. ومع تراجع هذه المهن، ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب، وتزايدت الهجرة نحو المدن الكبرى أو خارج البلاد بحثا عن فرص أفضل.

يقول الخياط الشاب علي البياتي "كنت أعمل في ورشة للخياطة منذ عشر سنوات، لكن الزبائن يفضلون الملابس الجاهزة من الأسواق والمولات، أغلبها تركي أو صيني. اليوم أعمل في محل موبايلات لأن الخياطة لا تسد متطلبات عائلتي اليومية". 

غياب الحماية الحكومية

يجمع معظم المراقبين على أن المشكلة الأساسية تكمن في غياب السياسات الحكومية الواضحة لدعم الإنتاج المحلي. فبينما تعمل الدول على فرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع المستوردة لحماية صناعاتها، ما زال العراق يطبق نظاما تجاريا منفتحا بلا ضوابط فعالة.

وتشير تقارير اقتصادية إلى أن الصناعات الصغيرة في العراق تمثل أقل من 5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة متدنية جدا مقارنة بدول الجوار. ويرى الخبراء أن تعزيز هذه الصناعات لا يحتاج بالضرورة إلى ميزانيات ضخمة، بل إلى تشريعات عادلة وتسهيلات ضريبية وقروض ميسّرة للحرفيين.

محاولات خجولة

ورغم الصورة القاتمة، فهناك مبادرات محلية، راحت تحاول إنعاش المهن الحرة عبر دعم الحرفيين وتسويق منتجاتهم إلكترونيًا. لقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة مشاريع شبابية تروّج للمنتجات اليدوية عبر الإنترنت، مثل صناعة الجلود والحلي والأثاث التراثي، مستفيدة من وسائل التواصل الاجتماعي في الوصول إلى جمهور جديد داخل العراق وخارجه.

وبهذا الصدد، تقول فاتن الكعبي، التي تعمل في صناعة الاكسسوارات اليدوية وتروج لها عبر الإنترنت "أردنا أن نعيد الاعتبار للحرف العراقية، مثل صناعة الجلد والنحاس والزجاج اليدوي. نبيع حاليا داخل العراق وخارجه، وهناك إقبال من الجاليات العراقية في أوروبا. المشكلة تبقى في ضعف الدعم الحكومي وقلة التسهيلات". 

 بين الانفتاح والفوضى

وأخيراً، لا يعّد الاستيراد الخارجي في حد ذاته مشكلة، بل هو ضرورة في اقتصاد عالمي مترابط، لكن الخطر يكمن في الفوضى التي ترافقه. فغياب الرقابة والدعم للعمال المحليين جعل السوق العراقية رهينة للمنتجات الأجنبية، فيما تلاشت مهارات مهنية عريقة كانت تمثل هوية البلد الاقتصادية والثقافية.

إن حماية عمال المهن الحرة لا تعني إغلاق الأبواب أمام التجارة العالمية، بل تتطلب توازناً مدروساً بين الاستيراد والإنتاج المحلي، وبدون هذا التوازن، سيبقى الحرفيون العراقيون في معركة خاسرة أمام سيل البضائع المستوردة، وستفقد البلاد أحد أهم أعمدتها الإنتاجية والاجتماعية.