لم تعد الانتخابات في العراق مجرد حدث سياسي دوري، ولا مجرد اختبار للأحزاب والمرشحين، بل تحولت في السنوات الأخيرة إلى لحظة كثيفة الدلالة، تكشف عمّا يجري تحت سطح المجتمع من تحولات ثقافية وحساسيات جديدة في الوعي العام. ومن خلال فرضية "التناسق الثقافي" يمكن قراءة النتائج الأخيرة بعيدًا عن لغة الأرقام وحدها، وبعيدًا عن السرد التقليدي الذي يقيس النجاح والفشل بمفهوم المقاعد. هذه الفرضية ترى أنّ ما يظهر في الصندوق هو في الحقيقة ترجمة رمزية لمعانٍ ثقافية تراكمت في السنوات الماضية، أكثر مما هو انعكاس لقرارات سياسية ظرفية. فالحدث الانتخابي، وفقًا لهذا المنظور، لا يُفهم من خلال الخطاب الرسمي أو تصريحات القوى المتنافسة، بل من خلال مساءلة البنى الثقافية التي أنتجت هذا السلوك الانتخابي. وهنا تبرز ثلاث قوى ثقافية كبرى شكّلت خلفية النتائج؛ ثقافة اللايقين السياسي، ثقافة الاعتراض الصامت، وثقافة البحث عن ملاذ اجتماعي بدل الدولة.
أول هذه القوى هي ثقافة اللايقين السياسي التي أصبحت السمة المهيمنة على المزاج العام منذ عام 2019. فالتجربة العراقية في العقدين الماضيين رسّخت شعورًا عميقًا بأن السياسة باتت مجالًا غير منتج، وأن التغيير عبر القنوات الرسمية بطيء ومشوّه. هذا اللايقين ليس موقفًا سياسيًا فقط، بل حالة ثقافية تشكّلت بفعل تراكمات من الإحباط، وغياب الثقة، وإحساس بأن الدولة لا تمتلك قدرة حقيقية على التصحيح. وعلى وفق فرضية التناسق الثقافي، فإن هذه الطبقة من الوعي هي التي تحدد معنى المشاركة الانتخابية: فكل صوت، سواء كان مقاطعًا أو مؤيدًا أو باحثًا عن بدائل، يصدر عن هذا الشعور العام بغياب الاستقرار. أما القوة الثانية فهي ثقافة الاعتراض الصامت، وهي ظاهرة لم تحظ بما يكفي من التحليل رغم حضورها الواسع في المجتمع. فالاحتجاج لم يعد يظهر فقط في الشارع، بل في صناديق الاقتراع نفسها من خلال تصويت احتجاجي غير مباشر؛ مثل اختيار مرشحين مستقلين، أو دعم قوى صغيرة، أو الامتناع المقصود عن التصويت. إنّ هذا السلوك ليس تجزئة للصوت السياسي قدر ما هو تعبير عن رغبة ثقافية في كسر مركزية الأحزاب التقليدية. فالفرد العراقي اليوم، بفعل الخبرة الثقيلة مع الفساد والعنف السياسي، بات يبحث عن صيغ جديدة للتمثيل، حتى وإن كانت محدودة الفاعلية. وهذه الروح الاحتجاجية الصامتة هي التي جعلت النتائج متحركة ومتقلبة، وغير قابلة للضبط ضمن المعادلات القديمة.
القوة الثالثة هي ثقافة البحث عن الملاذ الاجتماعي بدل الدولة. فالمواطن العراقي الذي لم يعد يرى الدولة إطارًا ضامنًا للحياة والخدمات والأمن، لجأ في السنوات الماضية إلى شبكات القرابة، والعشيرة، والمجتمع المحلي، والجماعات الصغيرة. هذا التحول في النسيج الثقافي خلق "تناسقًا" جديدًا بين معنى التصويت وانتماء الفرد. فاختيارات الناخب لم تعد مجرد تفضيل سياسي، بل تعبير عن الحاجة إلى سند اجتماعي واقعي يمكنه تقديم ما عجزت الدولة عنه. ومن هنا جاءت النتائج موزعة بين قوى محلية، ومرشحين يعتمدون على حضور اجتماعي أكثر منه برنامج سياسي. إنّ ما حدث في الانتخابات الأخيرة إذًا ليس مجرد إعادة توزيع للمقاعد، بل إعادة تشكيل لمعنى "السياسة" نفسها في العراق. فالصندوق لم يعد يجيب عن سؤال: من يحكم؟ بل عن سؤال آخر أعمق؛ ما الذي لم يعد المجتمع يريده؟ وقد جاءت الإجابات صريحة؛ لا يريد استمرار الوجوه نفسها، ولا يريد بقاء الأحزاب من دون تجديد، ولا يريد خطابًا سياسيًا منفصلًا عن الألم اليومي. هذه المعاني لم تَظهر كلها في النتائج النهائية، لكنها شكّلت الخلفية التي منحت تلك النتائج رمزيتها. ومن خلال فرضية التناسق الثقافي يمكن القول إنّ ما تغيّر ليس خيارات الناخبين فقط، بل البنية العميقة التي تنظّم معنى الاختيار. فالتاريخ هنا لا يُصنع من خلال القوى التي فازت، بل من خلال الحساسية الثقافية التي عبّرت عن نفسها في التصويت. وهذا ما يجعل هذه الانتخابات لحظة انتقالية. فهي لم تغيّر خارطة القوى جذريًا، لكنها كشفت أنّ المجتمع تحوّل، وأنّ السياسة لم تعد قادرة على تجاهل هذه التحولات. إنّ قراءة نتائج الانتخابات بمنظور ثقافي لا تلغي الحسابات السياسية، لكنها تضعها في سياقها الحقيق. سياق مجتمع يبحث عن معنى جديد للسيادة، وللعدالة، وللعلاقة بين المواطن والدولة. وإذا أرادت القوى السياسية فهم الرسالة، فعليها أن تقرأ ما وراء الصناديق، وأن ترى أنّ التغيير الثقافي أصبح القوة التي تحدد شكل المستقبل، مهما بدا المشهد السياسي راكدًا.