مع بداية كل يوم، وحين تبدأ الشوارع بالازدحام، تلمح وجوها صغيرة تمسك بالمكانس الطويلة وتكنس الأرصفة وأخرى تدفع حاويات النفايات. أطفال لم يتجاوز بعضهم الثانية عشرة، يرتدون سترات برتقالية كبيرة على أجساد نحيلة، ويغيب عن ملامحهم شيء من اللعب والضحك. هؤلاء هم "أطفال النظافة"، أبناء الفقر الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة حياة أكبر من أعمارهم، يكدحون تحت شمس الصيف أو برد الشتاء مقابل أجور زهيدة لا تكفي لإعالة عائلة، لكنها تمنع الجوع ليوم واحد على الأقل.
ظاهرة عمل الأطفال ليست جديدة في العراق، لكنها اليوم تتخذ شكلا أكثر قسوة، مع تزايد نسب الفقر وتراجع دور الدولة في توفير الحماية الاجتماعية والتعليم المجاني الحقيقي.
هؤلاء العمال الأطفال الذين يفترض أن يكونوا على مقاعد الدراسة، تحولوا إلى قوة عمل رخيصة، تستغل حاجتهم من قبل المقاولين أو البلديات التي تغض النظر عن تشغيلهم، في خرق واضح للقوانين التي تمنع تشغيل من هم دون الثامنة عشرة في الأعمال الشاقة.
بين الحاجة والاستغلال
علي، طفل يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، يعمل في إحدى البلديات بأجر يومي لا يتجاوز عشرة آلاف دينار. يقول بخجل لـ "طريق الشعب" "أبي مريض وأمي ما تشتغل، إذا ما أطلع أشتغل ما نقدر نشتري أكل". علي ليس حالة فردية، بل هو نموذج لمئات الأطفال الذين يجرون حاويات النفايات أو يكنسون الشوارع، وسط تجاهل مجتمعي واسع. إنهم يلبون حاجة الحكومة إلى أيد عاملة رخيصة، فيما تسلب منهم أبسط حقوق الطفولة.
عمالة الأطفال، بحسب المفهوم الإنساني والاقتصادي، ليست مجرد مخالفة قانونية، بل هي جريمة اجتماعية مزدوجة، فهي من جهة تحرم الطفل من التعليم وتدفعه مبكرا إلى سوق العمل، ومن جهة أخرى تكرس دورة الفقر جيلا بعد جيل، إذ يبقى الطفل الذي لم يتعلم أسير الأعمال الهامشية مدى حياته.
استغلال الطفولة من أجل الربح
من وجهة النظر الماركسية، تمثل عمالة الأطفال أحد أكثر أشكال الاستغلال الطبقي وضوحا. فماركس في تحليله للرأسمالية أشار إلى أن النظام الاقتصادي السائد لا يكتفي باستغلال البالغين، بل يمد يده إلى كل من يمكن أن يدر ربحا إضافيا، حتى لو كان طفلا. في كتاب "رأس المال"، يتحدث ماركس عن "إدخال المرأة والطفل إلى المصنع" كوسيلة لزيادة فائض القيمة عبر تخفيض كلفة الأجور وزيادة ساعات العمل".
وهذا بالضبط ما يحدث اليوم، وإن كان في صورة مختلفة. فالطفل العامل في الشوارع أو الورش أو مشاريع النظافة، لا يحصل على أجر عادل ولا ضمان اجتماعي، ويعامل كـ "أداة إنتاج" صغيرة في منظومة غير عادلة. الماركسية تنظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها نتيجة مباشرة لهيمنة رأس المال على العمل، حيث يستغل الإنسان - مهما كان عمره - طالما أنه قادر على إنتاج قيمة مضافة.
لا يكمن الحل من منظور ماركسي، في "الشفقة" على هؤلاء الأطفال، بل في تغيير البنية الاقتصادية التي تدفعهم للعمل أصلا. فالمسألة ليست أخلاقية فقط، بل هي طبقية بامتياز. حين يعيش الآباء في فقر مدقع، وحين تنهك الطبقة العاملة بالبطالة وانعدام الضمانات، فإن الأطفال يصبحون امتدادا لمعاناة أسرهم.
التعليم كحق لا كترف
الطفل الذي يكنس الشارع اليوم، كان يمكن أن يكون طالبا في مدرسة تفتح له أبواب المعرفة والحياة الكريمة. لكن غياب السياسات التعليمية الفاعلة، وانهيار البنية التحتية للمدارس في المدن الفقيرة، جعل التعليم ترفا لا يستطيع الجميع تحمله. وفي الوقت الذي تصرف فيه مليارات على الدعاية الانتخابية والمناصب، تبقى المدارس بلا مقاعد كافية، والمعلمون بلا رواتب مجزية.
من هنا يؤكد الفكر الماركسي على ضرورة تأميم التعليم والخدمات العامة وضمان وصولها إلى الجميع كحق إنساني، لا كامتياز طبقي. فالمجتمع الذي يترك أبناءه في الشوارع ليعملوا، هو مجتمع يفرط بمستقبله.
مسؤولية الدولة والمجتمع
إن إنهاء عمالة الأطفال لا يمكن أن تتحقق بقرارات شكلية، بل بإعادة توزيع الثروة بشكل عادل، وخلق نظام رعاية اجتماعية شامل يمنح الأسر الفقيرة بدائل حقيقية عن تشغيل أبنائها. كما يجب فرض رقابة صارمة على البلديات والشركات التي تستخدم الأطفال، وتجريم هذا السلوك قانونيا وإعلاميا.
الموقف الماركسي هنا واضح: لا يمكن القضاء على عمالة الأطفال دون القضاء على الفقر نفسه، ولا يمكن القضاء على الفقر دون تغيير النظام الاقتصادي الذي ينتج التفاوت الطبقي.
وأخيرا، إن أطفال النظافة ليسوا مجرد مشهد مؤلم في شوارعنا، بل هم مرآة تعكس عمق الخلل في بنية المجتمع. حين يجبر الطفل على أن يكون عاملا قبل أن يكون تلميذا، فإن المستقبل كله يصبح هشا.
ولعل السؤال الذي يجب أن نطرحه: أي مستقبل نبنيه على أكتاف أطفال يُحرمون من طفولتهم؟