اخر الاخبار

في دراسة مطوّلة نُشرت عام 2018، يقدّم عالم الاقتصاد ديفيد كوتز مقارنة بين نظام التراكم في الولايات المتحدة إبّان سيادة "الرأسمالية المنظّمة" بعيد الحرب العالمية الثانية، والذي أدّى إلى فترة من التوسّع الاقتصادي المستقر نسبيا، ونظام التراكم في عصر "الرأسمالية الليبرالية الجديدة" الذي أدى إلى أزمة مالية وركود عميق منذ عام 2008، معتبرا ذلك مثالا دقيقا على واقع الرأسمالية وأشكالها المؤسسية ببعدها العالمي.

ففي فترة ما بعد الحرب، عملت الدولة بنشاط على تنظيم الأعمال ونشاط السوق، والحفاظ على معدل بطالة منخفض نسبيا، وتوسيع البرامج الاجتماعية، وتخصيص استثمار حكومي واسع النطاق في الخدمات العامة مثل التعليم والبنية الأساسية، وفسح المجال أمام النقابات العمالية لتلعب دورا ما في أماكن العمل. لكن هذه السياسة سرعان ما شهدت انقلابا حادا منذ عام 1979، حيث تم تبنّي ثلاثية التحرر من القيود التنظيمية، والخصخصة، والاستقرار، وحيث صار الهدف تخفيض التضخم بدلا من زيادة فرص العمل، مع التراجع الكلي أو الجزئي عن مكتسبات الشغيلة، وخفض الاستثمار في البنية الأساسية، ونقل عبء الضرائب من الأغنياء إلى الطبقة المتوسطة، وتصفية أو تقليص دور النقابات، وأخيرا تحرير القطاع المالي والسماح بتدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر الحدود.

ويعود السبب في هذه الانتقالة إلى أن السياسة الكينزية، التي اعتُمدت في فترة "الرأسمالية المنظّمة" وسمحت بتدخل الدولة لتجنّب المشاكل الاقتصادية الخطيرة، وإيجاد تسوية بين رأس المال والعمل، وتقليل معدلات البطالة، قد فشلت في إيقاف تدهور أرباح الشركات، جراء عدم توافق القدرة الإنتاجية العالية مع التنافس الشديد في الأسواق من جهة، والفارق الكبير بين ارتفاع الأجور وإنتاجية العمالة من جهة ثانية. وقد استغلت الشركات الكبرى هذا الفشل، فأعادت هيكلة الاقتصاد السياسي عبر تقويض القوّة التفاوضية للعمالة، وخفض الضرائب على رأس المال، وفتح مراكز ربح جديدة توفرها الخصخصة، وإلغاء القيود التنظيمية، كتلك المتعلقة بحماية البيئة، وسلامة المستهلك، والصحة المهنية.

وعلى حساب سحق الشغيلة، تمكّنت الرأسمالية النيوليبرالية من التحكم بالتضخم، وتعزيز الأرباح والتراكم على مدى سنوات. فمقابل تراجع نفوذ الشغيلة وتدهور أجورهم بنسبة 4 في المئة، وتقليص العمالة المؤقتة، ارتفعت أجور المديرين التنفيذيين من 22 ضعفا لمتوسط الأجر في عام 1973 إلى 327 ضعفا في عام 2007، فيما أدّت المضاربة إلى إثراء أصحاب الأراضي والأوراق المالية للشركات، في حين تم خفض الضرائب على الدخل المرتفع ودخل العقارات.

إن النمو السريع في الأرباح، بعيدا عن فرص الاستثمار الإنتاجي المتاحة، واعتمادا على إنفاق المستهلكين بما يفوق دخولهم، والاقتراض بلا حدود، وانخراط القطاع المالي في أنشطة محفوفة بالمخاطر وشراء الأصول والعقارات العملاقة، قد أدّى إلى تضخم سلسلة من فقاعات الأصول، خاصة مع بقاء معدلات الاستثمار فاترة، باستثناء الطفرة الاستثمارية في تكنولوجيا معالجة المعلومات والاتصالات.

وخلقت هذه العمليات في أمريكا ثلاثة تطورات غير مستدامة على المدى الطويل، تمثّلت في: تنامي ديون القطاع الخاص (الأسر بنسبة 100 في المئة، والمؤسسات بنسبة 600 في المئة)، وإنشاء مجموعة من الأوراق المالية المشتقة الجديدة التي تعتمد على مجازفات كتغيّر قيمة العقارات، وبقاء الطلب الإجمالي معتمدا على إنفاق استهلاكي مدفوع بالدَّين.

وأدّى التدهور في الإنفاق الاستهلاكي إلى ركود أسعار العقارات ثم انخفاضها، وبالتالي إلى تدني القيمة السوقية للأوراق المالية المشتقّة الجديدة، التي شكلت جزءًا كبيرًا من أصول البنوك، والتي راحت تقلل من الإنفاق الاستثماري ومن معدل استغلال الطاقة بشكل أكبر، كي تتجنب الإفلاس. وتكشف مقارنة لمعدل الربح ومعدل التراكم خلال فترات الثمانينيات والتسعينيات والعقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، عن تميّز العقد الثاني بأعلى معدل ربح وأقل معدل تراكم.

وهكذا، عجزت إعادة الهيكلة عن تحقيق تراكم مستقر لرأس المال بمستوى مماثل لما كان عليه في فترة "الرأسمالية المنظّمة"، وأعاق تقلص الطلب على الناتج بسبب انخفاض الأجور الحقيقية والإنفاق العام الاستمرارَ في التوسّع الاقتصادي. إن بقاء معدلات تراكم رأس المال منخفضة، على الرغم من تعافي معدل الربح والسياسات النقدية التوسّعية واقتراب أسعار الفائدة من الصِّفر، كان مؤشرا على أن الرأسمالية النيوليبرالية عالقة في أزمة هيكلية، حيث أُغلِقت القنوات الثلاث لتعزيز تراكم رأس المال: معدّل ربح مرتفع، وطلب إجمالي متنامٍ، واستقرار يعطي قدرة على التنبّؤ بالاستثمار الموجّه نحو المستقبل.

وما يؤكد هذا الاستنتاج هو تزامن هذه الأزمة البنيوية مع توقف مؤسسات النظام عن تعزيز التراكم، بعد أن باتت عاجزة عن تحفيز الطلب من خلال فقاعات الأصول والإنفاق الاستهلاكي الممول بالديون، وتدني الطلب، وتقييد قدرة البنوك على الانخراط في الأنشطة المحفوفة بالمخاطر.

غير أن الرأسمالية النيوليبرالية ما زالت تحاول تأخير حدوث ركود جديد، عبر مواصلة استخدام فقاعات الأصول، كما في سوق العقارات وأسهم الشركات، وزيادة الربح من انخفاض الأجر الحقيقي، وهو ما حافظ على طلب مستقر نسبيا، قبل أن تنفجر الفقاعات من جديد ويحل الركود قريبا.

ومع ذلك، فإن التنبؤ بتاريخ الركود القادم مهمّة محفوفة بالمخاطر؛ فالعديد من التطوّرات قد تطيل أو تعرقل التوسع. فمقابل التأثير التحفيزي المؤقت لخفض الضرائب في الولايات المتحدة، مثلا، والذي يفيد الشركات بشكل أساسي، ستسرع حرب ترامب التجارية من حدوث الركود، لا سيما إذا ما عطلت سلاسل الإنتاج العالمية وخلقت مستوى عاليا من عدم اليقين لدى مخطّطي الاستثمار في الشركات. ومهما يكن الأمر، فإن الرأسمالية الليبرالية الجديدة لا تزال غارقة في أزمة بنيوية، لا تخرج منها إلا من خلال تغيير نظام التراكم؛ فاستمرار الركود لفترات طويلة سيولد استياء سياسيا متزايدا، وقد يؤدّي ذلك إلى استبدال النظام القائم، كما حدث في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، عندما اختفى شكل سابق من أشكال الرأسمالية القائمة على السوق الحرة، وحلّت محله الفاشية والرأسمالية المنظّمة.

ويبدو أن البدائل الوحيدة المطروحة على الطاولة هي، من ناحية، نظام دولة يهيمن عليه رجال الأعمال، ومن ناحية أخرى، نسخة جديدة من الرأسمالية الاجتماعية الديمقراطية، كما يروّج لها بيرني ساندرز. ويحاول النظام الأول الاعتماد على تعزيز الموقف التنافسي للشركات الأمريكية من خلال الاستثمار في البنية التحتية، وتعزيز التعليم الموجّه نحو المهارات، والابتكار المدعوم، والجمع بين زيادات الأجور المتواضعة ودور الدولة الأكثر نشاطا. ولعل برامج القوميين اليمينيين الاستبداديين تعّد الإيديولوجيا الأكثر قدرة على كسب الدعم لمثل هذه الرأسمالية المنظّمة التي تهيمن عليها الشركات.

أما الاتجاه السياسي الذي يروّج له ساندرز وغيره من اليسار، فقد يؤدي إلى ديمقراطية اجتماعية خضراء، قادرة على حلّ الأزمة البنيوية الحالية من خلال تحقيق نموّ متوازن في الأجور والأرباح، بدعم من الاستثمار الحكومي لخلق اقتصاد مستدام بيئيا، جنبا إلى جنب مع البرامج الاجتماعية الموسّعة والتعليم العالي المموَّل من القطاع العام، بدعم من الضرائب التصاعدية. وفي هذا السيناريو، من شأن ارتفاع إنتاجية العمل أن يجلب أرباحا متزايدة، كما كان الحال في ظل نظام ما بعد الحرب للرأسمالية المنظّمة، في حين أن ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي والحكومي من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع معدل استخدام الطاقة.

وعموماً، يعتمد ظهور نظام جديد للتراكم على توازن القوى التي تحشدها مجموعات وطبقات مختلفة في سياق أزمة هيكلية، ولا مجال لمعرفة مَن ستكون له الغلبة، لكن ما يمكن قوله بثقة هو أن لا الرأسمالية الليبرالية الجديدة، ولا الرأسمالية نفسها، قادرة على أن تكون أبدية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مترجمة ومعدّة بتصرف من مقال للكاتب ديفيد كوتز في سردية اليسار الجديد العدد 113 لعام 2018.