تثير بيانات تجارية حديثة شكوكاً متزايدة حول استخدام إيران أوراق منشأ عراقية وعُمانية لتسويق نفطها إلى الصين، في محاولة للالتفاف على العقوبات الأميركية. فبينما تنفي شركة تسويق النفط (سومو) أي تورط رسمي في هذه الأنشطة، تكشف سجلات الاستيراد الصينية عن كميات من النفط تُسجل كعراقي تفوق الحصص المعلنة بأكثر من 100 ألف برميل يومياً، ما يعادل مليارات الدولارات سنوياً.
يقول مختصون، ان هذا التناقض يضع العراق أمام تحديات مزدوجة، تشمل حماية سمعته النفطية في الأسواق العالمية، وتفادي تبعات محتملة من العقوبات الأميركية على شركات أو جهات قد تُتهم بالتورط في دعم “أساطيل الظل” الإيرانية.
وكشفت بيانات حديثة عن استيراد الصين لكميات من النفط تُسجَّل على أنها عراقية، لكنها تتجاوز بشكل كبير ما أعلن عنه رسمياً. ويشير هذا التناقض إلى احتمال استخدام إيران النفط العراقي كواجهة لتجاوز العقوبات الأميركية.
وبرغم نفي شركة تسويق النفط العراقية (سومو) أي تورط لها في هذا النشاط، تكشف السجلات الصينية عن وجود نحو (100) الف برميل يومياً إضافية تُسجل كنفط عراقي، بما يعادل أكثر من 2.5 مليار دولار سنوياً، منذ عام 2021، وهو نمط مستمر.
شحنات نفط "عراقية وعُمانية"
وأعلنت شركات متخصصة في تتبع الناقلات عن استخدام إيران مجموعة من الأساليب لإخفاء المصدر الحقيقي لشحناتها النفطية، تشمل تزوير وثائق الشحن والتلاعب ببيانات نظام التعرف الآلي (AIS) للسفن، ما يمكّنها من بث مواقع مزيفة.
وبيّنت الشركات، إن بعض الناقلات تقوم بمحاكاة عمليات التحميل بالقرب من ميناء صحار في عُمان، بينما يتم تحميل النفط فعليًا في المياه الإيرانية. وسمحت هذه الأساليب للنفط الإيراني بالوصول إلى الصين تحت غطاء أوراق منشأ عراقية أو عُمانية.
وقالت شركة “تانكر تراكرز” المتخصصة في تتبع الشحن: “يصل النفط الايراني الى الصين على أنه ‘نفط عراقي’ بكميات كبيرة بفضل وثائق سومو المزيفة"، مبينة انها رصدت "حدوث شيء مشابه مع النفط ‘العُماني’ نتيجة التزييف”. فيما اشارت شركة "كبلر" لتحليل البيانات الى أن ناقلات النفط الضخمة غالباً توقف ارسال اشارات التتبع، ثم تعاود الظهور، لكنها نادراً ما تزيف مباشرة محطات التحميل العراقية. وفيما يتعلق بزيت الوقود، فقد لوحظ بعض التزييف المرتبط بمحطة البصرة العراقية، لكن بكميات صغيرة فقط.
وتُقدر "كبلر" أن ايران صدرت حوالي 245,000 برميل يومياً من زيت الوقود في عام 2024، بقيمة تقارب 6 مليارات دولار، حيث ذهبت حوالي النصف إلى الإمارات العربية المتحدة، و22 بالمائة الى الصين، و10 بالمائة الى ماليزيا، والباقي الى دول شرق آسيا أخرى.
سومو تنفي تهريب النفط
من جهتها، نفت شركة تسويق النفط العراقية (سومو)، برئاسة مديرها العام علي نزار الشطري، وجود أية عمليات خلط أو تهريب للنفط الخام أو المنتجات النفطية في الموانئ العراقية أو داخل المياه الإقليمية.
وقال الشطري في تصريح للوكالة الرسمية، إن عمليات التصدير تخضع لرقابة دقيقة وتتبع نظامًا صارمًا منذ لحظة التحميل وحتى وصول الشحنات إلى الجهات المستوردة.
وأضاف أن الشركة تعتمد على برامج تتبع متقدمة، من بينها برنامج شركة “كبلر” الأمريكية، الذي يوفر معلومات دقيقة عن حركة كل ناقلة.
وأوضح، أن بيع المنتجات النفطية يتم وفق أسعار عالمية مستندة إلى نشرات معترف بها، ومن خلال مزايدات تشارك فيها شركات دولية، مشيرًا إلى أن عمليات البيع والدفع تتم عبر آليات مصرفية عالمية واضحة وشفافة، ما يمنع أي محاولة تلاعب.
وأكد الشطري، أن جهات متعددة تشارك في الرقابة على عمليات التصدير، مشيرًا إلى أن وجود ناقلات غير معروفة لا يعني بالضرورة تهريبًا، فقد تكون مخصصة لنقل مواد تابعة لوزارات أخرى.
وأوضح في ختام حديثه أن الشركة تحتفظ بسجل كامل ومحدث لكل ناقلة تتعامل مع النفط العراقي، وتتعاون بشفافية عالية مع الجهات الأمنية والرقابية
أوراق وشهادات منشأ عراقية؟
وللتعليق على البيان، أكد الخبير في مجال اقتصاد النقل الدولي زياد الهاشمي، أن تصريح مدير شركة تسويق النفط العراقية (سومو) ركّز على الجوانب الرسمية للصادرات النفطية، وتجنب الحديث عن عمليات تهريب النفط العراقي التي تتم خارج سلطة الشركة.
وقال الهاشمي في حديث مع "طريق الشعب"، أن "النفط العراقي المهرب يُستغل أحياناً لتسهيل تهريب النفط الإيراني المعاقب، مستخدماً أوراق وشهادات منشأ عراقية".
وأضاف أن من المفترض أن "يطالب مدير سومو بفتح تحقيق حول اتهامات وزارة الخزانة الأمريكية، ومطالبة الجهات المعنية بمراقبة المرافئ والمياه الإقليمية العراقية وتشديد إجراءات التدقيق على السفن المغادرة".
ولفت الى أن استيراد الصين كميات من النفط بأوراق منشأ عراقية تتجاوز الحصص الرسمية، يشير إلى وجود نفط من مناشئ أخرى يُسوق عبر شهادات المنشأ العراقية.
وزاد بالقول إن بعض المصافي الصينية الصغيرة تتغاضى عن تدقيق صحة الوثائق بسبب الأسعار المنخفضة، ما يجعل من النفط الاضافي المباع وفق هذه الشهادات غالباً نفطاً إيرانياً مهرباً، بحسب بيانات الخزانة الأمريكية وعقوباتها السابقة على بعض المصافي الصينية.
كما أشار الى أن ايران تستخدم ما يُعرف بـ”اسطول الظل” لتهريب نفطها، مستغلة شركات في دول عربية، خاصة الإمارات، لتسهيل عمليات التعاقد والبيع واستلام الأموال وتحويلها لجهات أخرى، مما يعرض هذه الدول لمخاطر مباشرة مع الخزانة الأمريكية ويؤثر على سمعتها الدولية.
وشدد الهاشمي على أن "العراق رسمياً غير متورط في تهريب النفط الايراني، لكن وجود جهات نافذة داخل العراق وخارجه ساهمت بشكل غير مباشر في دعم جهود الأسطول الإيراني لتهريب النفط المعاقب"، وهذا بحسبه "قد يؤدي إلى فرض مزيد من العقوبات الأمريكية على أفراد وشركات ومؤسسات متورطة في كسر الحصار على النفط الايراني".
الصين.. رئة الاقتصاد الايراني
وللتفصيل في هذه المسألة، قال أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي، أن الصين أصبحت “الرئة التي يتنفس عبرها الاقتصاد الايراني، فمشتريات الصين للنفط الايراني تخفف كثيراً من عبء العقوبات المفروضة عليها".
وبحسب السعدي فان بيانات شركات تتبع شحنات النفط، اظهرت أن مشتريات الصين من الخام والمكثفات الايرانية تراوحت خلال النصف الأول من عام 2025 بين 1.3 و1.5 مليون برميل يومياً، وبلغت ذروتها قرب 1.8 مليون برميل يومياً في حزيران، وفق تقديرات شركتي “فورتكسا” و”كبلر”.
وقال السعدي في حديث مع "طريق الشعب"، ان حوالي 90 في المائة، من صادرات ايران النفطية تتجه نحو الصين، التي تستحوذ على نحو 13–14٪ من وارداتها من الخام خلال تلك الفترة، مع اعتماد شديد على مصافي “التيبوت” في شاندونغ، التي تجذبها خصومات عادةً تتراوح بين 7 – 8 دولارات للبرميل مقارنةً بالبراميل غير المعاقبة، الا انه لفت كذلك الى ان هذه الأرقام في الوقت نفسه، تجعل الاقتصاد الايراني معرضاً بشدة لتقلبات الطلب الصيني وسياساته التجارية والطاقة.
وحول فعالية ما يُعرف بـ”آلية الزناد” الأوروبية لإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة، قال السعدي إن نجاحها يعتمد كلياً على موقف بكين. فالآلية قابلة للتفعيل من القوى الأوروبية، وتبدأ عداً تنازلياً لمدة 30 يوماً لإعادة تطبيق العقوبات الأممية القديمة، ما لم يُصادق مجلس الأمن على استمرار الإعفاءات.
واكد ان القدرة الردعية الاقتصادية تبقى محدودة، إذا استمرت الصين في امتصاص معظم نفط ايران عبر خصومات وعمليات نقل لوجستية مثل “الأسطول المظلم” او كما يعرف بـ"اساطيل الظل" ومحطات إعادة الشحن.
وأضاف أن ايران من جهتها، طورت أدوات تشغيلية للتغلب على العقوبات، مثل التخزين العائم الذي بلغ هذا الصيف نحو 40 مليون برميل، والتحميل المتناوب في "ميناء خارك"، قرب مناطق الاستلام الصينية، ما يحافظ على تدفق الإيرادات ولو بتكلفة أعلى.
بدائل محدودة
وأكد أن البدائل أمام إيران حيال تقلص مشتريات الصين محدودة، وتشمل تعميق الخصومات السعرية لجذب مشترين هامشيين في آسيا، وتوسيع آليات المقايضة والبيع المسبق مقابل سلع وخدمات، وزيادة التكرير المحلي والبتروكيماويات لتقليل تصدير الخام، وتكديس مخزون عائم انتظاراً لتحسن الظروف السياسية أو السوقية.
وشدد على أن جميع هذه البدائل أقل ربحية وأكثر تقلباً مقارنةً بالاعتماد على الصين كمشتر رئيس.
وعن دوافع الصين للاستمرار في شراء النفط الايراني رغم العقوبات، أشار إلى أنها اقتصادية واستراتيجية معاً.
واوضح أن الخصومات تحسّن هوامش المصافي، وتساهم في تنويع مصادر الخام بعيداً عن الموردين الغربيين أو الممرات المعرضة للاضطراب، فضلاً عن تعزيز النفوذ السياسي لدى شريك اقليمي مهم في المنطقة، مع تحقيق مكاسب مالية مباشرة للشركات الصينية عبر فاتورة واردات أقل.
وواصل السعدي قائلاً: إن استمرار تدفق النفط الايراني إلى الصين يضعف وحدة الموقف الغربي عملياً، حتى لو ظلت البيانات السياسية متصلبة. فطالما أن أكبر مستورد للطاقة في العالم يترك “بوابة خلفية” مفتوحة، فإن أي عقوبات قانونية ستواجه فجوة بين الرادع القانوني والتدفقات النقدية الفعلية إلى إيران.
وخلص الى أنه “طالما الصين تستورد بمتوسط 1.3–1.5 مليون برميل يومياً من الخام الايراني، ستظل فعالية أي عقوبات غربية ناقصة، وأي تغيير في هذا الثابت سواءً إرادياً من بكين أو نتيجة اضطرابات بحرية سيحول الأدوات القانونية الى ضغط مالي حقيقي سريع التأثير على الايراني والأسعار والتضخم في ايران".