اخر الاخبار

يشكّل ملف المنافذ الحدودية واحداً من أكثر الملفات حساسية في العراق، لارتباطه بأبعاد أمنية واقتصادية مباشرة، فبدلا من أن تكون بوابة لتنظيم حركة التجارة وحماية الأمن الغذائي والدوائي، تحولت بفعل الفساد والتهريب وضعف الرقابة إلى مصدر استنزاف لموارد الدولة، وبوابة خلفية لتهريب السلع والبضائع لصالح أجنحة اقتصادية وعسكرية مرتبطة بأحزاب وميليشيات.

وبرغم تأكيد رئيس الوزراء المضي بـ"إجراءات إصلاحية"، إلا أن استمرار وجود منافذ غير رسمية وطرق تهريب “نيسمية” على الحدود مع دول الجوار، يبقي الخلل قائماً، ويجعل من تلك الإصلاحات رهينة بإرادة مواجهة شبكات معقدة من الفساد والمصالح الداخلية والخارجية، التي لا ترغب برؤية منافذ العراق منظمة وخاضعة لسلطة القانون.

وكان رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، أكد خلال زيارته مقر هيئة المنافذ الحدودية، في 26 آب، أهمية مواكبة التطور التكنولوجي في عمل المنافذ الحدودية، مشيراً إلى جهات وجود جهات داخلية وأخرى خارجية لا ترغب بتنظيم منافذ العراق.

وأكد السوداني أن أمن بالبلد بشكل عام، خصوصاً الأمن الدوائي والغذائي، يقترن بعمل هيئة المنافذ الحدودية، موضحاً أن "المنافذ واحد من الملفات التي يؤشر عليها عدم التنظيم والممارسات السلبية ونقاط ضعف الدولة بسبب حالات الفساد والتهريب"، وأن الحكومة اتخذت إجراءات "حقيقية" وإصلاحات هيكلية ومنها نظام "الأسيكودا" الذي هيّأ الأرضية للعمل بشكل مختلف.

وقال السوداني، ان هناك وجود جهات داخلية وخارجية لا يروق لها تنظيم عمل المنافذ، مؤكداً أن الحكومة اتخذت إجراءات وإصلاحات هيكلية لضمان الانضباط والرقابة، بما في ذلك نظام “الاسيكودا” والأتمتة والحوكمة الالكترونية.

وأوضح أن أي تقاعس عن ضبط المنافذ يؤثر على الأمن والاستقرار، ويتيح فرصاً للفساد والتهريب، ما يهدد الاقتصاد الوطني ويعرقل المشاريع التنموية.

وطبقا لتقديرات وزارتي التجارة والتخطيط، فان حجم الاستيرادات يتجاوز 70 مليار دولار سنويا.

ويملك العراق منافذ حدودية على امتداد حدوده مع الدول الست المحيطة به، ويبلغ عدد هذه المنافذ (22) منفذا بريا وبحريا، عدا عن المنافذ الجوية المتمثلة بالمطارات، اضافة الى المنافذ غير المرخصة التي طالما بقيت بوابة فساد للميليشيات والأحزاب المتنفذة والمسؤولين الفاسدين.

وبحسب تقرير مشترك سابق، صادر عن هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية، فان البلاد تتكبد خسائر باهظة نتيجة الفساد في المنافذ الحدودية، مع دول الجوار.

طرق نيسمية تعمل بحيوية

في هذا الصدد، أكد المتخصص في شؤون المنافذ الحدودية، مصطفى الفرج، أن الفساد مستشر في عمل الجمارك والمنافذ الحدودية، مشيراً الى وجود جهات داخلية وخارجية لا ترغب في القضاء على هذه الظاهرة، برغم الإجراءات الحكومية الحديثة الرامية لضبطها.

وقال الفرج في حديث لـ”طريق الشعب”، إن الدولة لم تتمكن حتى الان من السيطرة على المنافذ غير الرسمية داخل حدود العراق، كما لا يمكن ضم منافذ اقليم كردستان مع المنافذ المركزية، وهو ما يفتح ثغرات كبيرة تؤدي إلى خروقات واسعة تتيح الفساد وعمليات التهريب الجمركي بشكل متزايد.

وأضاف أن البيروقراطية المفرطة في عمل الجمارك والمنافذ أثرت سلباً على فعالية الرقابة، مشيراً إلى أنه رغم ضبط عشرات الحاويات يومياً، إلا أن ذلك ما يزال لم يشكل رادعاً لعمليات التهريب المستمرة.

وأشار الفرج إلى أن تطبيق نظام “الاسيكودا” والحوكمة الالكترونية في الجمارك الرسمية لم يحقق زيادة ملموسة في الايرادات، نظراً لاستمرار عمل المنافذ غير الرسمية بشكل شبه مفتوح، ما يقلل من أثر أي برامج تنظيمية أو اصلاحات الكترونية.

وأكد أن "وجود هذه المنافذ غير الرسمية يحرم الدولة من الاستفادة الكاملة من جهود الرقابة ويتيح استغلال الموارد المالية عبر تهريب البضائع".

وتطرق الفرج الى أمثلة عملية، مشيراً إلى أن "التهريب يشمل السجائر والمعسل والمشروبات الكحولية والذهب، حيث تصل نسبة دخول هذه المواد عبر الطرق غير الرسمية الى نحو 80%، بينما لا تدخل الدولة سوى 20% فقط بشكل قانوني، وفقاً لإحصاءات أعلن عنها محافظ البنك المركزي قبل أشهر".

وأضاف أن التهريب "يتم غالباً عبر طرق من كردستان إلى بغداد، بأسعار تسعير لكل حاوية تصل الى آلاف الدولارات، بما يشكل خسائر مالية كبيرة للميزانية العامة ويغذي مكاسب الفاسدين".

وأشار الفرج إلى أن هذه العمليات غير القانونية لا تتعلق فقط بالتهريب التجاري، إذ تمتد لتشمل أي سلعة عالية الرسوم الجمركية، حيث يظل سعرها في السوق منخفضاً بشكل غير مبرر على الرغم من زيادة الرسوم الرسمية بنسبة تصل الى 200%، بسبب دخولها عبر الطرق غير القانونية.

ولفت إلى أن "استمرار هذه الظاهرة سببه وجود جهات متنفذة داخل الدولة تستفيد من هذه القنوات، إلى جانب تجار متواطئين، ما يزيد من صعوبة القضاء على الفساد دون إعادة هيكلة شاملة للمنافذ والمراقبة الفعلية عليها".

واتم حديثه بالقول: "يجب القضاء على الطرق النيسمية والمنافذ غير القانونية قبل الشروع في أي برامج الكترونية جديدة"، مؤكداً أن "هذه الخطوة تمثل شرطاً أساسياً لضمان فعالية الرقابة الجمركية، وحماية إيرادات الدولة، وتحقيق الانضباط المالي، وضمان أن موارد الدولة تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني بدل أن تذهب لمصلحة الفاسدين".

ولدى إقليم كردستان (6) منافذ تجارية برية رئيسة مع كل من تركيا وإيران، مسؤولة عن توريد نحو (50%) من احتياجات كردستان العراق من المواد الغذائية والإنشائية ومواد أخرى كقطع غيار السيارات والأدوية والأثاث، فضلا عن العديد من البضائع التي يستوردها العراق بشكل عام من الجارين الشمالي والشرقي.

ومن أبرز منافذ الإقليم مع إيران، منفذ حاج عمران، وباشماخ، وبرويز خان، وكرمك، إضافة إلى منافذ أخرى صغيرة تستخدم في تنقلات المسافرين والبضائع البسيطة مثل “كيلي”، و”شوشمي”، و”طويلة”، و”الشيخ صالح”، و”بشته”.

ومع تركيا لدينا منفذان؛ الأول إبراهيم الخليل، وهو التجاري الرئيس. والثاني منفذ سرزيري.

انفلات أمني ينعش الفوضى

من جانبه، قال الخبير الأمني عدنان الكناني أن الفوضويين يزدهرون في أوقات الانفلات الأمني والفوضى، مشيراً إلى أن بعض الأفراد الذين أعلنوا أنفسهم زعامات خلال فترات عدم الاستقرار استغلوا غياب الرقابة والسيطرة الأمنية لتحقيق مصالحهم الشخصية.

وقال الكناني في حديث لـ"طريق الشعب"، إن هؤلاء الفوضويين "وجدوا بيئة خصبة لممارسة نشاطاتهم في ظل غياب أجهزة رقابية قوية"، مضيفاً أن الوضع الحالي "يختلف تماماً، حيث بات هناك نظام وسيطرة قانونية، ومحاولات جادة لضبط إيقاع الأمن والاستقرار في البلاد".

وشدد الكناني على الدور الاستراتيجي للمنافذ الحدودية، مبيناً أن البعض يظن أنها مجرد نقاط لدخول وخروج البضائع والجمارك، بينما هي في الحقيقة تمثل سلطة الدولة ومفتاحاً لضمان الأمن الوطني واستقرار الاقتصاد المحلي.

وأوضح أن المنافذ الحدودية "تسمح إما بدعم الاقتصاد والزراعة والصناعة أو بإلحاق أضرار جسيمة بالداخل، من خلال إدخال بضائع غير مطابقة للمواصفات، مواد غذائية أو طبية منتهية الصلاحية، مواد سامة، أو حتى مخدرات وأسلحة، ما يؤثر بشكل مباشر على الأمن العام ويهدد الشباب الذين يمثلون عماد البلد ومستقبله".

وأشار إلى أن بعض الجهات داخل العراق، وبعض المسؤولين أو العملاء، يسعون الى "استغلال هذه المنافذ لتحقيق مكاسب شخصية أو تنفيذ أجندات خارجية تستهدف زعزعة الأمن الداخلي وإضعاف الاقتصاد الوطني، عبر ضرب الزراعة والصناعة المحلية ووقف المشاريع التنموية، ما يؤدي إلى زيادة البطالة".

وأضاف أن هذه الجهات "تعمل على خلق بيئة من التبعية الاقتصادية للعراق لدول الجوار، من خلال تقويض القدرة الإنتاجية للقطاعات الحيوية داخل البلاد، والتي تضمن له استقلالية اقتصادية، وجعل السوق العراقي مستهلكاً شرهاً للسلع القادمة من الخارج".

واستشهد الكناني بمنفذ جريشان الرابط بين العراق والكويت، موضحاً أن هذا المنفذ منذ عام 2003 وما يزلل تحت سيطرة القوات الأمريكية، دون أي رقابة عراقية فعلية، وهذا بحد ذاته يفتح الباب امام تهريب الأسلحة والمسلحين والمخربين، إضافة إلى مواد خطرة تهدد الأمن الداخلي".

وأضاف أن العراق يواجه تحدياً أكبر "بسبب وجود منافذ رسمية وغير رسمية على طول حدوده مع إيران، سوريا، الكويت، تركيا والسعودية، مشدداً على ضرورة ضبط هذه المنافذ كخطوة حيوية للحفاظ على الأمن والاستقرار وتعزيز الاقتصاد المحلي".

وأكد أن ضبط وتنظيم المنافذ الحدودية "يمثل أداة رئيسية لضبط الامن بالدرجة الاساس، و لحماية الاقتصاد الوطني من الفساد والتهريب، وتحفيز الزراعة والصناعة المحلية، وخلق فرص عمل للشباب، وتقليل معدلات الفقر"، مشيراً الى أن "أي خلل في ادارة هذه المنافذ يؤثر سلباً على استقرار الدولة وسيادة القانون".

وختم الخبير الامني حديثه بالقول إن "السيطرة الفعالة على المنافذ الحدودية لا تتعلق فقط بالجانب الاقتصادي، وتعد محور أساسي للأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، وأن أي تقاعس أو فساد في إدارتها يفتح المجال أمام تهديدات متعددة من الداخل والخارج، تهدف الى زعزعة استقرار العراق وإضعاف قدرته على حماية مصالح شعبه".

وقبل يومين، أكد رئيس هيئة المنافذ الحدودية عمر الوائلي، أن هناك سيطرة "تامة" على المنافذ الحدودية، لحماية المنتج الوطني ومنع تهريب المحظورات.

وقال المتحدث باسم الهيئة علاء الدين القيسي في بيان طالعته "طريق الشعب"، أنه "في إطار المتابعة الميدانية المستمرة، تفقد رئيس هيئة المنافذ الحدودية عمر الوائلي طريق كركوك - السليمانية، للتأكد من سيطرة الجهات الأمنية على المنفذ وضبط حركة البضائع".

وأكد الوائلي خلال الجولة "ضرورة تعزيز حماية المنتج الوطني من المنافسة غير المشروعة، ومنع مرور المواد الممنوعة من الاستيراد عبر المعابر غير الرسمية"، مشدداً على "أهمية تطبيق القانون على جميع المنافذ لضمان سلامة الاقتصاد الوطني".

وأعلن الوائلي، الأسبوع الفائت، تحقيق أرقام غير مسبوقة في الإيرادات. وفيما أشار إلى أن استتباب الأمن في العراق رفع من مستوى حركة التجارة الدولية، وأكد أن جميع البضائع المستوردة تخضع للفحص الدقيق قبل دخولها للعراق، وجميع منافذ العراق تعمل بنظام الأتمتة والحوكمة.

أيدٍ خفية تهدد الصناعة والزراعة

بدوره، قال الخبير الاقتصادي باسم جميل انطوان، أن تقدم أي بلد يعتمد بشكل رئيس على إنتاجه المحلي في مجالات الصناعة والزراعة والنقل والمواصلات والسياحة، مشيراً إلى أن تحقيق الاكتفاء الذاتي يضع الدولة في وضع اقتصادي صحي ويحد من هدر العملة الوطنية والعملات الأجنبية، ويبقي الموارد داخل البلد لتطوير الصناعة وتحقيق الكفاية الذاتية.

واكد أن هذا المسار يسهم مباشرة في تقليص معدلات البطالة والفقر.

وأوضح في حديث مع "طريق الشعب"، أن بعض دول الجوار للعراق تعتمد استراتيجية معينة، إذ تسعى الى قتل القطاع الانتاجي المحلي في العراق، ليصبح السوق العراقي مستهلكتاً للسلع والمواد الغذائية والميكانيكية والبناء القادمة من تلك الدول، مما يجعلها الممول الرئيسي للاقتصاد العراقي.

وأشار انطوان الى وجود “أيدٍ خفية” وراء تدمير الصناعة العراقية، مرتبطة بجهات خارجية، واستفادت كثيراً من المنافذ الحدودية، حين كانت تُدار بطريقة غير قانونية وانتشر فيها الفساد.

وقال إن رئيس المنافذ الحدودية على علم بالجهات التي تسعى لإفساد مناطق المنافذ وإدخال بضائع غير مطابقة للمواصفات، وشخص هذه الجهات، مؤكداً أن هذه القضية بالغة الأهمية.

وأضاف أن هناك عناصر داخل العراق تعمل وتخدم مصالح خارجية، وستتضرر مصالحهم بشكل مباشر عند ضبط وتنظيم عمل المنافذ. وهو ما اشار له رئيس الوزراء في تصريحه.

وأشار إلى أن رئيس الوزراء أعلن مؤخراً أن حجم استيرادات العراق وصل الى نحو 70 مليار دولار؛ واذا دققنا وتابعنا هذا الموضوع، نجد انها مرتبط بمصالح دول الجوار، ودول أخرى،

وتساءل في ختام حديثه بالقول: “ماذا لو بقي جزء كبير من هذه الاموال داخل العراق، وماذا لم تم إنتاج هذه السلع داخلياً بأيادي عراقية؟ كم مصنعاً سيوفر فرص عمل للشباب في مختلف الاختصاصات، ويسهم في الحد من البطالة والفقر؟".