رغم مرور شهرين على زيارة رئيس البرلمان محمود المشهداني إلى أنقرة، وتلقيه وعودا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيادة الإطلاقات المائية، الا ان العراق لا يزال يواجه أزمة خانقة في موارده المائية. وبدلاً من استخدام العراق أوراقه الضاغطة، تستمر العلاقات التجارية والسياحية والعقارية بين البلدين بشكل تصاعدي، بينما تبقى أزمة المياه بلا حلول ملموسة.
وعود تركية على الورق
وأعلن المشهداني عقب لقائه أردوغان، في حينها، عن موافقة أنقرة على إطلاق 420 متراً مكعباً في الثانية من المياه. ولاحقاً، أكد رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، أن تركيا وسوريا وافقتا على زيادة الإطلاقات لتصل إلى 320 متراً مكعباً عبر سد الموصل و350 متراً عبر الحدود السورية.
لكن بيانات وزارة الموارد المائية ومرصد العراق الأخضر تشير إلى أن ما وصل فعلياً لم يتجاوز 120 – 350 متراً مكعباً في الثانية، أي أقل بكثير من حاجة العراق الفعلية المقدرة بـ 650 – 800 متر مكعب في الثانية.
ولا يُعرف ان كانت الإطلاقات قد شملت نهري دجلة والفرات أو دجلة وحده.
ويرهن وزير الموارد المائية معالجة هذه الأزمة "بصورة كاملة" باجراء "تفاهمات سياسية ودبلوماسية مع تركيا وسوريا، إلى جانب الاعتماد على الأمطار المتوقع هطولها في نهاية تشرين الثاني وبداية كانون الأول المقبلين، والتي قد تسهم في تخفيف حدة الأزمة".
العراق زبون مميز لتركيا
في الوقت الذي تعجز فيه الحكومة عن تأمين حصتها المائية، تكشف الأرقام عمق التبعية الاقتصادية العراقية لتركيا. فقد حل العراق في المرتبة السادسة بين الدول الأكثر استيراداً من تركيا، بقيمة 968 مليون دولار في تموز 2025 وحده.
وجاء العراق ثانياً عربياً في عدد السياح إلى تركيا.
وفي مجال العقارات اشترى العراقيون 665 منزلاً خلال الأشهر السبعة الأولى من 2025، محتفظين بمركز متقدم بين جنسيات العالم.
وتُظهر هذه الأرقام أن العراق يملك أوراق ضغط قوية على تركيا، لكنه لم يوظفها حتى الآن في ملف المياه، رغم التحذيرات الجدية من توقف محطات الإسالة في بغداد إذا استمرت الإطلاقات الحالية عند هذا المستوى المتدني.
اقل من الحاجة الفعلية!
وأكد وزير الموارد المائية عون ذياب، أن الحكومة العراقية تعمل حاليًا على تحركات عاجلة مع الجانب التركي لزيادة كميات المياه المنصرفة عبر نهري دجلة والفرات، وسط أزمة مائية خانقة تعصف بالعراق منذ عدة أشهر.
وأشار الوزير إلى أن الجانب التركي لم يلتزم حتى الآن بالمعدل المتفق عليه من الإطلاقات المائية، حيث لا تتجاوز الكميات الحالية 350 متراً مكعباً في الثانية، وهو ما يقل بشكل كبير عن حاجة العراق الفعلية المقدرة بنحو 650 متراً مكعباً في الثانية.
وأوضح ذياب، أن انخفاض الإطلاقات من دول المنبع يفاقم أزمة الموارد المائية في العراق، مؤكدًا أن الحكومة تبذل جهودًا مستمرة لضمان حصول البلاد على حصتها الكاملة من المياه وفق الاتفاقات الموقعة مع تركيا.
كما أفاد مرصد العراق الأخضر، المتخصص في شؤون البيئة، أن الأحد الماضي كان آخر يوم للمهلة التي حددتها تركيا لضخ الإطلاقات المائية صوب العراق.
وأوضح المرصد في بيان، أن "تركيا كانت أعلنت عن إطلاق 400 متر مكعب من المياه في الثانية خلال شهري تموز وآب، إلا أن العراق تعرض لـ(خديعة كبيرة) حين توقع أن تكون الإطلاقات وفق الإعلان التركي، فيما تبين لاحقاً أن تركيا أطلقت فقط 120 مترا مكعبا في الثانية".
ورأى المرصد، أن هذا الأمر دفع العراق إلى إطلاق ضعف هذه الكمية، ما أدى إلى إفراغ السدود والنواظم، محذرا من ان العراق سيعاني خلال المرحلة المقبلة شحا حادا في الموارد المائية، في حال لم يتوصل إلى حل مع تركيا عبر التفاوض على تمديد مدة الإطلاقات "خصوصاً مع احتمالية استثمار السياسيين هذه المسألة بالتزامن مع موسم الانتخابات".
تصريح رسمي: العراق يمر بمرحلة معقدة
من جهته، قال المتحدث باسم وزارة الموارد المائية خالد شمال، ان "الواقع المائي في العراق يمر بمرحلة صعبة ومعقدة وحرجة، سيما ونحن نعيش اليوم مرحلة ندرة و شح حادة في الموارد".
وأكد شمال في تصريح لـ"طريق الشعب"، ان الحكومة التركية "لم تلتزم بالإطلاقات المائية الخاصة بحصة العراق، اذ ما تزال قليلة ومتذبذبة، برغم انها تمثل استحقاقا طبيعيا من نهري دجلة والفرات"، مشيرا الى ان "مستوى الايرادات المائية القادمة من سوريا وايران، هي الاخرى متدنية، في وقت يحتاج فيه العراق الى أكثر من 400 متر مكعب في الثانية في نهر دجلة، وحوالي 250 الى 300 متر مكعب في الثانية في الفرات في الوقت الراهن".
واوضح، ان "العراق لا يتسلم حالياً سوى أقل من 35% من حصته الطبيعية واستحقاقه، وهذا ادى بطبيعة الحال الى تدني مستويات الخزين المائي ليبلغ 8 في المائة فقط من السعة الخزنية، أي ما يعدل ثمانية مليارات متر مكعب، وهو أدنى معدل مُسجل".
وخلص شمال الى القول: "نحن الآن في مرحلة ندرة مائية حادة، ونحتاج إلى كل قطرة مياه متاحة. الوضع المائي في العراق حرج، والحكومة تعمل من اجل لتأمين الإطلاقات والحصص المائية اللازمة عبر التفاوض مع دول الجوار وتركيا بالخصوص".
تهديدات مائية واجتماعية!
وتشهد بعض المحافظات، منذ أشهر، شحا كبيرا في مياه الشرب والري، وسط مخاوف من انعكاسات سلبية على الأمن الغذائي والزراعي، في حال استمرت الإطلاقات الحالية دون زيادة ملموسة.
وتعاني محافظات الجنوب والفرات الأوسط من شح مياه الشرب، وخرجت تظاهرات غاضبة احتجاجاً على جفاف الأراضي الزراعية.
وحذر خبراء البيئة من زيادة الملوحة والتلوث في نهري دجلة والفرات، إضافة إلى تهديد الثروة السمكية والزراعة، ما قد يؤدي إلى تفاقم معدلات الفقر والهجرة العكسية، متسائلين: لماذا يُترك ملف المياه رهينة وعود دبلوماسية لم تُترجم إلى اتفاقات ملزمة، في حين لدى تركيا 136 نقطة توغل وأربع قواعد عسكرية داخل الأراضي العراقية؟
ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة موسمية، بل تهديد استراتيجي للأمن المائي والغذائي والاجتماعي في العراق. ومع أن الحكومة العراقية تمتلك أوراق ضغط اقتصادية ونفطية وسياحية قوية، فإن عجزها عن استخدامها يجعل تركيا تتعامل مع ملف المياه كمسألة سياسية مؤجلة، بينما يدفع المواطن العراقي ثمن العطش والجفاف.