اخر الاخبار

يشهد العراق ارتفاعاً غير مسبوق في حجم دينه الداخلي، وسط تحذيرات متزايدة من خبراء الاقتصاد بشأن انعكاساته الخطيرة على الاستقرار المالي والاجتماعي. فوفقاً للإحصاءات الرسمية، ارتفع الدين من 70.5 ترليون دينار نهاية 2023 إلى أكثر من 92 تريليوناً خلال النصف الأول من 2025، وهو ما اعتبره مختصون دليلاً على غياب استراتيجية مالية واضحة، وتوسعاً مفرطاً في الاقتراض لتغطية النفقات التشغيلية على حساب الاستثمار والتنمية.

ويرى مراقبون أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى ضغوط تضخمية وتراجع في ثقة المواطنين بالعملة المحلية، داعين الحكومة إلى تبني خطة إصلاح شاملة تعيد هيكلة الموازنة وتعزز الإيرادات غير النفطية قبل أن تتحول الأزمة إلى تهديد شامل للاستقرار الاقتصادي.

نفقات تشغيلية عالية

الخبير الاقتصادي والاكاديمي د. نبيل المرسومي، يقول إن الدين الداخلي للعراق يشهد ارتفاعاً متسارعاً يثير القلق بشأن قدرة الدولة على تمويل نفسها وضمان استدامة وضعها المالي.

ويضيف في حديث لـ"طريق الشعب"، أن حجم هذا الدين ارتفع من نحو 70.5 ترليون دينار نهاية عام 2023 إلى 83 تريليوناً في نهاية 2024، ليقفز خلال النصف الأول من عام 2025 إلى أكثر من 92 تريليون دينار، مشيراً إلى أن ما يقارب نصف هذا المبلغ عبارة عن حوالات مخصومة لدى البنك المركزي.

ويبين المرسومي أن هذا التوسع في الاقتراض جاء نتيجة العجز المتفاقم الذي تسببه النفقات التشغيلية العالية، لكنه في المقابل يترك انعكاسات سلبية متعددة على الاقتصاد؛ فارتفاع الدين يضعف القيمة الحقيقية للأصول الحكومية، ويزيد من صعوبة السداد، كما يكرّس الطابع الريعي للاقتصاد ويهمّش فرص الاستثمار الاستراتيجي. كذلك فإنه يضيف أعباء ثقيلة على الموازنة العامة، ويزيد من احتمالات التضخم ما لم يُدار بتنسيق محكم مع السياسة النقدية.

ويشير ايضا الى أن استمرار هذا النهج يضعف أدوات السلطة النقدية، ويحد من فاعليتها في ضبط الأسواق، كما ينعكس على النمو الاقتصادي من خلال انشغال المصارف بتمويل أدوات الدين الحكومية على حساب القطاع الخاص، مبينا أن خدمة الدين الداخلي وحدها بلغت أكثر من 9 تريليونات دينار عام 2024، وهو رقم كبير قد يفرض ضغوطاً على الإنفاق الاجتماعي الضروري، ما يعني تأثيراً مباشراً على مستوى معيشة المواطنين.

الخيار الأسهل على الحكومة!

وكرر المراقب للشأن الاقتصادي أحمد عبد ربه، ما ذهب اليه المرسومي من أن ارتفاع الدين الداخلي في العراق "يعود بالأساس إلى اتساع العجز الأولي وتنامي الإنفاق الجاري على الرواتب والدعم والتحويلات، مقابل إيرادات نفطية متقلبة لا توفر استقرارًا طويل الأمد".

وقال عبد ربه لـ"طريق الشعب"، إن الحكومة لجأت إلى الاقتراض المحلي لسد الفجوات المالية السريعة، مدفوعة بمرونة إصدار حوالات وسندات الخزينة، وهو خيار أسهل سياسيًا مقارنةً بإجراء إصلاحات ضريبية وهيكلية عميقة.

وأوضح عبد ربه لـ "طريق الشعب"، أن اختلال توقيتات التدفقات المالية الناتج عن تذبذب الإيرادات الدولارية وتوقيتات الصرف بالدينار، دفع الحكومة إلى إصدار أدوات دين قصيرة الأمد لتغطية الفجوات الطارئة. كما أن تباطؤ مسار الإصلاحات الاقتصادية، وتأخر إصلاح مؤسسات القطاع العام، وبقاء المشاريع المتلكئة على حالها، كلها عوامل أبقت الإنفاق التشغيلي مرتفعًا، وأعاقت نمو الإيرادات غير النفطية.

وعن التأثيرات الاقتصادية، بيّن عبد ربه أن الدين الداخلي قد يرفع معدلات التضخم في حال اقترن بتوسع ائتماني أو ضغوط على سعر الصرف الموازي، ولا سيما مع تمرير أسعار الاستيراد إلى السوق المحلية. لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن هذا الأثر يمكن أن يضعف إذا نجحت الإصدارات الحكومية في امتصاص السيولة الفائضة بعائد حقيقي موجب.

وفي ما يخص الحلول، طرح عبد ربه حزمة من السياسات لتخفيف عبء الدين دون المساس بالإنفاق الاجتماعي، أبرزها اعتماد إطار مالي متوسط الأجل يحدد سقوفًا للإنفاق ويرتبط بمسارات العائدات النفطية، وإعادة تشكيل سلة الإنفاق بحيث تُحمى شبكات الأمان الاجتماعي مقابل ضبط فاتورة الرواتب والبدلات، إلى جانب ترشيد الدعم عبر استهداف مباشر للأسر المستحقة باستخدام قواعد بيانات ومدفوعات رقمية، بدل الدعم الشامل.

أما على صعيد البدائل التمويلية، فقد دعا عبد ربه إلى تعزيز الإيرادات غير النفطية عبر ضريبة قيمة مضافة تدريجية، ورسوم انتقائية على السلع الضارة والفاخرة، وتحديث أنظمة الجمارك والالتزام الإلكتروني، إضافة إلى تفعيل ضريبة الأملاك. كما اقترح التوجه إلى التمويل الموجّه بالمشروعات من المؤسسات الدولية، مع التركيز على البنى التحتية والخدمات الأساسية، إلى جانب إصلاح الشركات العامة وإشراك القطاع الخاص في إدارتها، واستثمار الأصول العامة من خلال عقود شفافة طويلة الأمد.

واختتم عبد ربه حديثه بالقول: إن تبنّي العراق لنهج أكثر استدامة في إدارة الدين العام من شأنه أن يحافظ على التوازن المالي ويحمي الإنفاق الاجتماعي، وفي الوقت نفسه يعزز فرص النمو ويعزز الاستقرار الاقتصادي.

تآكل قدرة الدولة على الاستثمار

من جهته، أكد الباحث الاقتصادي عبد الله نجم أن ارتفاع الدين الداخلي في العراق إلى مستويات غير مسبوقة يعكس غياب استراتيجية مالية واضحة لإدارة الموارد.

وقال نجم لـ"طريق الشعب"، إن المشكلة لا تكمن فقط في حجم الدين، بل في طبيعة استخدامه، حيث يذهب معظمه لتغطية نفقات تشغيلية قصيرة الأمد، بدلاً من الاستثمار في مشاريع إنتاجية طويلة الأمد، محذرا من أن هذا النمط من التمويل "يؤدي إلى تآكل قدرة الدولة على الاستثمار في البنى التحتية والصناعة والزراعة، وهو ما يضعف فرص خلق وظائف جديدة ويجعل الاقتصاد أكثر هشاشة أمام أي تقلبات في أسعار النفط".

وأضاف أن الاستمرار في هذا المسار سيؤدي على المدى المتوسط إلى تفاقم الضغوط التضخمية، وتراجع ثقة المواطنين بالعملة المحلية، وزيادة المخاطر على الاستقرار النقدي، منبها الى أن الحل لا يكمن في مزيد من الاقتراض، بل في إعادة هيكلة أولويات الموازنة، وتقليص الاعتماد على النفط، وخلق مصادر دخل مستدامة عبر إصلاح النظام الضريبي، وتفعيل الاستثمار في القطاعات غير النفطية. كما دعا إلى ايجاد دور أكبر للقطاع الخاص، من خلال تشجيع المصارف على تمويل الأنشطة الإنتاجية، بدلاً من الاكتفاء بشراء أدوات الدين الحكومية.

وخلص الى القول ان "الرهان على الدين الداخلي وحده ليس خيارا آمنا، وإذا لم يتم تدارك الأمر بخطة إصلاح شاملة، فإن المخاطر المالية قد تتحول إلى أزمة اقتصادية واجتماعية أعمق".