رغم الأضرار الجسيمة التي أحدثتها المحاصصة في إدارة شؤون البلاد، والتي انعكست سلباً على أداء مؤسسات الدولة وكفاءتها، فإن صناع القرار ما زالوا يتجاهلون التحذيرات والأصوات المطالبة بإبعاد هذه المؤسسات عن التجاذبات السياسية.
وتأتي وزارة التعليم وتشكيلاتها في مقدمة هذه المؤسسات التي شهدت تدهوراً واضحاً في أدائها نتيجة هذا النهج، ما يؤثر مباشرة على جودة العملية التعليمية ومخرجاتها، ويطرح تساؤلات جدية حول مدى التزام المسؤولين بالإصلاح والتطوير بعيداً عن المحسوبية والاعتبارات الحزبية.
"الاتحادية" تسحب صلاحيات الوزير
وفي وقت سابق، أجرى مجلس النواب تعديلات على قانون وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، تضمنت منح الوزير صلاحية تعيين عمداء الجامعات والكليات ومساعدي رؤساء الجامعات والمعاهد.
وبعد مرور نحو عام على هذه التعديلات، عادت المحكمة الاتحادية العليا لتنظر في دعاوى الطعن بعدم دستورية بعض مواد القانون، حيث أقام رئيس مجلس الوزراء الدعوى للطعن بصلاحيات التعيين الممنوحة للوزير.
وأسفرت جلسة المحكمة، عن صدور حكم بعدم دستورية الفقرة (د) من المادة (5) والقسم المتعلق بالمادة (11) من القانون، التي تمنح الوزير حق تعيين هذه المناصب، ما يسحب هذه الصلاحية من الوزارة ويعيد النظر في آلية تعيين القيادات الجامعية.
وفي الوقت نفسه، رفضت المحكمة الطعون المتعلقة ببقية فقرات المادة (11) والمادتين (20) و(26)، لعدم مخالفتها نصوص الدستور
ملتزمون بقرار الاتحادية
وعن خلفية القرار والية تعاطي الوزارة معه، قال المتحدث باسم وزارة التعليم العالي، حيدر العبودي، أن الوزارة تتعامل مع قرار المحكمة الاتحادية من منظور قانوني قضائي بحت، مشدداً على أن الموضوع لا يتطلب أي زاوية نظر أخرى، موضحًا أن المحكمة الاتحادية هي أعلى سلطة دستورية في البلاد، وقراراتها باتّة وملزمة.
وأضاف العبودي في حديث مع "طريق الشعب"، أن الوزارة يحكمها قانون رقم 40 لسنة 1988، والذي شهد عدة تعديلات على مر السنوات، بما فيها مرحلة ما بعد 2003، وكان آخر تعديل على القانون بتاريخ 22 تموز 2024، تحت مسمى “التعديل التاسع”، وقد نُشر هذا التعديل في جريدة الوقائع الرسمية.
وتابع، أن المحكمة الاتحادية أصدرت قرارها بعد أكثر من عام على نشر التعديل، استجابة لدعوى مرفوعة من رئيس الوزراء ضد رئيس مجلس النواب، وفق تصنيف أطراف الدعوى، مبينا أن التعديل التاسع أضاف بعض الصلاحيات لمن يشغل منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي، باعتباره المسؤول الأعلى عن الوزارة، ومن بينها صلاحية تعيين مساعدين رئيس الجامعة والعمداء.
وأكد أن المحكمة الاتحادية نقضت المادة الخاصة بتعيين العمداء ومساعدي رئيس الجامعة ضمن التعديل التاسع، واعتبرت أن هذه الفقرة غير دستورية، مما أعاد الأمور إلى ما كانت عليه قبل التعديل التاسع، مشيراً الى أن القرار قضائي وملزم.
وعن آلية التعيين بعد هذا القرار، أوضح العبودي أن صلاحية التعيين أصبحت من اختصاص مجلس الوزراء، حيث يقوم الوزير المختص بترشيح الشخصيات المؤهلة، ثم ترفع الترشيحات إلى مكتب رئيس الوزراء ليتم عرضها على مجلس الوزراء والتصويت عليها لاختيار المرشح النهائي
يجب ان يسري القرار بأثر رجعي
من جانبه، أكد نقيب الأكاديميين السابق، مهند هلال، أن قرار المحكمة الاتحادية الأخير، رغم تأخره، الا انه عالج قضية مهمة تتعلق بالقيادات الجامعية في وزارة التعليم العالي، مشددًا على ضرورة تفعيله عمليًا على أرض الواقع.
وقال هلال في حديث مع "طريق الشعب"، انه “عند النظر الى واقع وزارة التعليم العالي، وكذلك الوزارات الأخرى، نجد أن بعض المناصب تُشغل وفق المحاصصة الطائفية والحزبية، ما يعطي الانطباع بأن الميدان العملي للوزارة يُستحوذ عليه من قبل جهة معينة نتيجة الانتماءات الحزبية أو المحافظة".
واضاف انه "سبق وأن أكدنا مراراً وتكراراً أن وزارة التعليم العالي يجب أن تخرج من دائرة المحاصصة، كونها ‘أم الوزارات’. فالدولة تعتمد على مخرجات الوزارة فيما يتعلق بالكوادر التي تدخل ضمن مختلف مجالات عمل الوزارات الأخرى”.
وتابع هلال قائلاً ان "المعالجات المطلوبة بعد قرار المحكمة يجب أن تركز على تصحيح الواقع وابعاد المحاصصة في آلية ايلاء المناصب"، مبيناً ان "استمرار المسؤولين الذين تم تكليفهم بطريقة غير دستورية لا يحقق الهدف من القرار".
واكد ضرورة "استبدال الأعضاء أو الإدارات أو الأحزاب التي استحوذت على تلك المناصب، وتعيين إدارات جديدة وفقًا لما نص عليه القرار، الذي أوضح بجلاء عدم دستورية تكليف بعض القيادات، وبالتالي فإن وجودهم غير دستوري، كما يجب سحب كل الامتيازات التي حصلوا عليها بالكامل".
ونبه الى انه اذا كان "من بين تلك الإدارات من يستحق البقاء، فلا مانع من السماح له بذلك، ولكن وفق معايير الكفاءة والأقدمية”.
وتابع ان “إصدار تقرير أو خبر صحفي يقول إن الإدارات الحالية مستمرة في أعمالها بحجة أن وضعها القانوني سليم، هو أمر غير صحيح. القرار أوضح بشكل واضح أن تكليف بعض القيادات غير دستوري، ولذلك يجب العودة إلى تعليمات حسن سير المرفق العام لتكليف أفضل معاون أو الأكفأ أو الأقدم مكان تلك القيادات، تفاديًا للمشكلات القانونية التي وقعت بها جميع مؤسسات التعليم العالي”.
واختتم هلال حديثه بالقول: ان "المعالجة الفعلية على أرض الواقع هي ما يعطي القرار أهميته الحقيقية، لضمان إصلاح وضع القيادات الجامعية وفق المعايير القانونية والدستورية، بعيداً عن المحاصصة الحزبية والطائفية".
سحب الصلاحيات غير كافٍ
من جهته، قال المراقب للشأن التربوي والتعليمي، علي حاكم، أن مناصب رؤساء الجامعات تعد من المناصب الحساسة، كونها تمثل المخرجات والخريجين الذين يخرجون من العملية التعليمية، مشدداً على أهمية ألا يتم توظيف هذه المناصب سياسياً، كونها منصب إشرافي على العملية التعليمية لا ينبغي أن يتأثر بالسياسة أو الانتماءات الحزبية.
وأضاف حاكم في حديث لـ"طريق الشعب"، أن الواقع في العراق يظهر أن "كل وزير ينتمي مباشرة الى حزب سياسي يتسنم مهام ادارة الوزارة، يجري سلسلة تغييرات، يترتب على ذلك تغيّر رؤساء الجامعات بحيث يصبحون منتمين للحزب ذاته الذي يسيطر على الوزارة"، مؤكداً أن هذه الظاهرة مستمرة عبر الحكومات المتعاقبة، وتفشت بشكل اوسع مع الحكومة الحالية".
ونوه الى أن "الاحزاب السياسية المتحكمة بالمشهد، تُعامل منصب رئيس الجامعة وكأنه منصب إداري عادي يمكن الاستفادة منه سياسياً، رغم اختلاف الواقع التعليمي"، مشيرا إلى أن الخطورة الكبرى تكمن في أن "الوصول إلى منصب رئيس الجامعة أصبح مرتبطاً بالولاء الحزبي، خصوصاً بالنسبة للدكاترة ذوي الخبرة والتدرج الوظيفي، حيث لا يمكن لهم الوصول إلى هذا المنصب بدون دعم حزبي، وهي ظاهرة تتفاقم أيضاً على مستوى عمداء الكليات".
وشدد حاكم على ضرورة حصر هذه المواقع الحكومية في مجال التعليم العالي، بعيداً عن الانتماءات الحزبية والتحاصص السياسي، مشيراً إلى أن "أي قرار يبعد عملية تعيين رؤساء الجامعات عن الأحزاب يسهم في ضمان بقاء العملية التعليمية مستقلة عن السياسة وتغيراتها".
وزاد بالقول انه “من المهم أن يبتعد رئيس الجامعة عن الاوردرات السياسية، تمامًا كما في السلك العسكري، حيث لا يحق لمن له ولاءات حزبية الترشح، إذ إن اقحام السياسة بالتعليم يخلق مشكلة كبيرة. لذا، يجب أن تكون هناك رقابة مستمرة لضمان تنفيذ هذا الإجراء فعلياً، وليس مجرد قرار شكلي”.
وختم حاكم بالقول: ان “الإجراء الذي صدر عن الاتحادية هو خطوة مهمة، لكنه يظل غير كافٍ دون إشراف ومتابعة مستمرة، لأن الصلاحيات الفعلية في التعيين ما زالت بيد وزير التعليم، ويجب التأكد من أن العملية التعليمية تبقى مستقلة عن الضغوط السياسية".