اخر الاخبار

في خطوة أثارت جدلاً واسعاً بين خبراء الاقتصاد والسياسة، منحت وزارة المالية، مؤخراً، مصرفين خاصين صلاحية منح الضمانات السيادية بالاشتراك مع الحكومة. المصرفان، مصرف بغداد والمصرف الأهلي العراقي، تملك فيهما البنوك الأردنية أغلبية نسبتها 51% من رأس المال، ما دفع لطرح تساؤلات مهمة حول مدى ملاءمة تفويض أدوات سيادية هامة لمؤسسات ذات ملكية جزئية أجنبية.

مختصون وصفوا هذه الخطوة بانها تحول غير مسبوق في إدارة أداة كانت حكراً على الدولة، ستترتب عليها أعباء إضافية في حال فشل المشاريع الممولة تحت هذه الضمانات، مؤكدين ضرورة اجراء مراجعة قانونية فورية وتحديد سقوف واضحة للضمانات، ووضع ضوابط اشرافية صارمة من البنك المركزي لضمان حماية المال العام.

ما الضمانات السيادية؟

الضمانات السيادية في السياسة المالية هي كفالة او تعهد رسمي من الحكومة بدفع مبلغ معين أو تحمل مسؤولية مالية إذا فشل مشروع أو جهة ما في سداد قرض حصلت عليه. بمعنى، عندما تمنح الحكومة ضماناً سيادياً، فهي تؤكد للمقرض أو البنك: “إذا لم يتمكن هذا المشروع من رد القرض، نحن سنتحمل المسؤولية وندفع بدلاً منه”. وهذه الضمانات تساعد في تسهيل حصول المشاريع والشركات على قروض من بنوك أو مؤسسات دولية، لأنها تقلل من المخاطر على المقرضين. وبالتالي، يمكن الحصول على تمويل بسهولة أكبر لدعم المشاريع الاقتصادية والتنموية في البلد.

تحتاج الى إشراف من البنك المركزي

في هذا الشأن، قال مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية، د. مظهر محمد صالح، إن الدولة من الناحية النظرية يمكنها منح ضمان سيادي للمصرف الأهلي، ليقوم بدوره في ضمان القروض الممنوحة للقطاع الخاص من المصارف الأجنبية.

وأضاف أن هذا الإجراء يجعل المصرف الأهلي حلقة وسطى تتحمل المخاطر التشغيلية والائتمانية، في حين تبقى الدولة الضامن الأخير.

وأوضح في حديثه مع "طريق الشعب"، أن الهدف من هذه الخطوة هو: "تحفيز الاقراض الدولي للقطاع الخاص العراقي"، مشيراً إلى أن ذلك "أمر مطلوب وضروري لتقليل الاعتماد على الإنفاق الحكومي".

وأردف صالح بالقول: أن هذا النموذج "معمول به في دول مثل مصر وتركيا والمغرب، حيث تمنح الحكومات ضمانات لصناديق أو مصارف محلية لتسهيل اقتراض القطاع الخاص من مؤسسات دولية، منها البنك الأوروبي لإعادة الإعمار، وبنك التنمية الأفريقي، ومؤسسات ائتمان الصادرات الأوروبية".

وأشار إلى أن هذا النوع من التمويل يهدف عادةً إلى "دعم التمويل الدولي للقطاع الخاص، مع تقليل الضغط على الخزينة العامة، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بتكلفة تمويل أقل، وبناء سجل ائتماني دولي للقطاع الخاص العراقي".

إلا أنه اكد أن الأمر يتطلب ان تكون هناك "قيود وضوابط قانونية ورقابية جوهرية يجب مراعاتها، منها ضرورة وجود تشريع خاص أو نص في قانون الموازنة يسمح بمنح الضمانات السيادية". كما شدد على اهمية "وجود اتفاق رسمي ومحدد بين الدولة والمصرف الأهلي، لضمان التقييم الفني والائتماني للمشاريع الممولة، الى جانب ربط الضمانات بمشاريع إنتاجية قابلة للاسترداد المالي، وليس فقط المشاريع الاستهلاكية أو الخدمية".

وتابع صالح، أن من المهم أيضاً "تحديد سقف للضمانات السيادية ضمن موازنة الدولة، وإشراف دقيق من البنك المركزي ووزارة المالية على تنفيذ هذه الضمانات لتعظيم الفائدة للاقتصاد الوطني"، معتقدا ان "هذه الآلية يمكن أن تُعد أداة ذكية للدبلوماسية الاقتصادية والتمويل التنموي، طالما تستخدم بشفافية وحوكمة عالية، وضمن رؤية استراتيجية وتنموية تتماشى مع البرنامج الحكومي وخطة التنمية الوطنية 2024-2028".

تحذير من تداعيات اقتصادية

وحذر الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي من قرار التفويض الذي ستكون له آثار وانعكاسات على الأوضاع الاقتصادية العامة للبلد.

وتعقيبا على حديث المختصين بان هذا الإجراء قد يساعد في اجتذاب مزيد من المستثمرين الأجانب، نبّه الرفيق فهمي الى انه "يثير في الوقت نفسه مسألة إدارة المخاطر المرافقة لمثل هذا الاستثمارات التي يتم اجتذابها، وتوافقها مع المتطلبات والحاجات التنموية للبلد، اي نوعية المشاريع التي تمنح لأصحابها الضمانات السيادية، ومن ثم الملاءة والقدرة المالية والفنية ورصانة الجهة المستثمرة وفاعلية الرقابة والمتابعة للقرض".

ورأى فهمي أن تحقيق النتائج والأهداف المرجوة من هذا الإجراء، يتطلب "وجود تشريع منظم له، وان تكون هناك ضوابط وتعليمات صارمة تلتزم بها المصارف التي يُمنح لها التفويض، فضلا عن المتانة المالية والإدارية وسلامة أصحاب رؤوس أموال المصارف المعنية. كما على وزارة المالية والبنك المركزي ضمان توفر جميع هذه الشروط ومن ثم ممارسة الدور الرقابي المطلوب".

وأردف الرفيق فهمي كلامه بأن "الواقع المؤسسي في العراق وعناصر الضعف المشخصة في المنظومة المصرفية، بما في ذلك ظواهر الفساد وسوء الادارة وضعف الرقابة، تضعنا أمام تساؤلات جدية بشأن هذا الاجراء والمخاطر التي قد تترتب على المالية العامة. لذا يبدو من الضروري ان يصدر بشأنه تشريع، بعد ان تتم مناقشة الامر في مجلس النواب".

مخاوف قانونية ومالية

من جهته، عّد أستاذ الاقتصاد الدولي، نوار السعدي، قرار وزارة المالية الاخير بأنه "تحوّل خطير في إدارة أدوات الدولة السيادية"، مبيناً ان "هذه الأداة كانت في السابق حكراً على الحكومة، والآن تُمنح لمصارف خاصة، مما يثير مخاوف جدية بشأن آثارها المالية والقانونية والمخاطر المحتملة".

وقال السعدي في حديث مع "طريق الشعب"، أن هذا التفويض يحمل ثقلًا استراتيجياً، لأن الضمان السيادي يعني التزام الدولة بتحمل جزء أو كامل المسؤولية في حال تعثر أي مشروع، مضيفا أن "منح هذه الصلاحية لمؤسسات مملوكة جزئياً لأجانب قد يحول أحد أهم أدوات السيادة إلى سلعة يمكن تداولها في السوق المصرفي".

وأضاف السعدي، أن الهواجس الأساسية تدور حول عدة أسئلة، منها: خلفية هذا القرار، ولماذا تتخلى الدولة عن سيطرتها على أداة سيادية كهذه، وكذلك وجود سابقة دولية لمثل هذا الإجراء، وأثره القانوني والمالي على العراق.

وتابع قائلاً انه "من حيث النية المحتملة أن وزارة المالية قد سعت لتفعيل دور القطاع المصرفي الخاص في تمويل المشاريع الوطنية، لا سيما في قطاعات مثل الصناعة والطاقة، لتقليل العبء المالي المباشر على الخزينة العامة".

ولفت الى أن هذا القرار "ربما يأتي في إطار إشراك القطاع الخاص في التنمية، لكنه يبقى محاطًا بمخاطر كبرى في حال عدم وجود ضوابط وتشريعات واضحة".

وعلى الصعيد الدولي، أكد السعدي أن المؤسسات الدولية التي تقدم ضمانات للمشاريع عادة ما تفعل ذلك عبر وكالات حكومية أو صناديق مملوكة للدولة، وليس عبر بنوك تجارية خاصة مملوكة لأجانب، واصفا حالة العراق في هذا الشأن بأنها "فريدة وتفتقر إلى الغطاء القانوني والمؤسسي الكافي".

ومن ناحية قانونية، بين السعدي أنه "لا يوجد حالياً نص دستوري أو قانوني يمنع وزارة المالية من منح هذه التفويضات، لكنها قد تتعارض عملياً مع صلاحيات البنك المركزي العراقي في حال لم يتم التنسيق معه"، مردفا أن "منح صلاحية سيادية لمصارف مملوكة جزئياً لأجانب يثير جدلاً قانونياً يتطلب تفسيره من قبل المحكمة الاتحادية العليا".

أما من حيث قدرة هذه المصارف على تحمل التبعات، فقد ذكر السعدي أنها "غالباً لا تمتلك رؤوس أموال كافية لتحمل تعثر مشروع كبير بمفردها، وبالتالي تتحمل الدولة جزءًا من العبء، إن لم يكن كله، لا سيما إذا حدث نزاع قانوني داخلي أو خارجي".

وأشار إلى أن المخاطر المحتملة تشمل: تحميل الميزانية أعباء إضافية في حال فشل المشاريع الممولة تحت هذه الضمانات، وأن المصارف قد تستخدم هذه الصلاحية لتعزيز موقعها التنافسي بصورة قد تخلق نوعاً من الاحتكار أو تضارب المصالح، وربما تؤدي إلى سوء استخدام موارد الدولة تحت غطاء الضمان السيادي.

واكد أن منح الضمانات السيادية لمصارف خاصة مملوكة جزئياً لأجانب يمثل "تحوّلاً خطيرًا يتطلب مراجعة قانونية ورقابية فورية، ويجب أن يكون مقرونًا بتشريعات واضحة ورقابة صارمة تضمن حماية المال العام والسيادة الاقتصادية للعراق".

واختتم السعدي بالقول إنه في حال تعثر أي مشروع، لن يكون المصرف وحده مسؤولًا، لأن الدولة هي من قدمت الضمان، وبالتالي قد تتحمل جزءاً من المسؤولية أمام المستثمرين أو المحاكم الدولية إذا تطور النزاع.