في ظل التغيرات التي يشهدها سوق العمل العراقي، وتزايد التوجه نحو العمل غير التقليدي، برزت التجارة الإلكترونية بوصفها ملاذا لشريحة واسعة من الشباب الذين يسعون لتحقيق دخل يوازي طموحاتهم ويخفف الأعباء المالية عن كاهلهم. وفي الوقت الذي تزداد فيه المشاريع الفردية عبر الإنترنت، تبرز تساؤلات حول مدى تنظيم هذا القطاع، وتأثيره على الاقتصاد الرسمي.
وفي ظل التحديات الاقتصادية وتزايد الأعباء الدراسية، وجد مصطفى ميثم، طالب جامعي، فرصة لتخفيف العبء المالي عن عائلته وسداد رسوم دراسته، من خلال العمل في بيع الملابس الرجالية عبر الإنترنت "أزياء سيدال"، مستفيد من سوق الشورجة الشعبي في بغداد كمصدر رئيسي لبضاعته.
ويؤكد مصطفى لـ "طريق الشعب"، أن العالم اليوم يتجه بشكل متزايد نحو الإنترنت، الذي تحول إلى سوق حر ضخم لا حدود له، يضم كل ما يمكن أن يحتاجه الإنسان من ملابس، وأجهزة إلكترونية، ومستلزمات منزلية، وصولاً إلى السيارات. ويقول: "الإنترنت اليوم هو السوق الأكبر والأوسع، والناس تقضي ساعات طويلة في التصفح والاختيار من بين آلاف المنتجات المصنفة بحسب السعر والماركة والجودة."
ويضيف، أن هذا التحول في سلوك المستهلكين جعل من التجارة الإلكترونية خيار عملي وسهل للشباب، مشيرا إلى أن عمله يقوم على اختيار القطع بعناية من الشورجة، ثم عرضها على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي، مع تقديم شرح مباشر للمنتجات والتفاعل مع الزبائن عبر البث المباشر أو الرسائل.
ويرى مصطفى أن دخله من هذا المشروع الصغير ساعده في تغطية جزء من مصاريفه الجامعية، كما مكنه من دعم أسرته في مواجهة مصاريف الحياة اليومية. ويؤكد أن التجارة الإلكترونية لم تكن مجرد وسيلة لتحقيق دخل، بل فتحت له أبوابا واسعة لتطوير نفسه، وتعلم مهارات مثل التسويق، التواصل، وتنظيم الوقت.
وفي مقارنة بين العمل الواقعي والعمل عبر الإنترنت، يوضح مصطفى ان "العمل عبر الإنترنت أعطاني مرونة أكبر في إدارة وقتي، خاصة وأنا طالب بحاجة إلى التركيز على دراستي. في الوظائف التقليدية كنت أضطر للالتزام بساعات محددة وأحيان أشتغل تحت ضغط، ما كان يمنعني من التوازن بين الدراسة والعمل."
ويضيف انه يستطيع عرض بضاعته بشكل مباشر والتواصل مع المتابعين بسهولة: "هذا الشيء غير ممكن في العمل الواقعي. كذلك، قلل هذا النوع من العمل الكثير من التكاليف مثل التنقل أو استئجار محل، مما وفر لي جزءا كبيرا من مصاريف المشروع".
تنظيم السوق الإلكتروني وتحفيزه
فيما يرى الباحث الاقتصادي علي نجم، أن ازدياد نشاط العمل المنزلي والتجارة عبر الإنترنت في العراق يمثل تطورا طبيعيا في ظل الأزمات الاقتصادية والبطالة، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن تحديات بنيوية تتعلق بغياب التنظيم القانوني لهذا القطاع.
وبحسب نجم، فإن هذه الأنشطة على الرغم من مساهمتها في تحريك عجلة الاقتصاد وتوفير فرص دخل للفئات المهمشة كالشباب والنساء تبقى خارج نطاق الاقتصاد الرسمي، ولا تسهم بأي شكل ملموس في رفد الخزينة العامة، خصوصا في ظل غياب الرقابة الضريبية وعدم تفعيل التشريعات المنظمة للتجارة الإلكترونية.
ويشير نجم في حديث لـ "طريق الشعب"، إلى أن "القانون العراقي تعامل مع هذه الظاهرة من خلال إقرار قانون التجارة الإلكترونية عام 2019، والذي يتضمن تعليمات تنظم عمليات البيع والشراء عبر الإنترنت، وشروط ترخيص المتاجر الرقمية، وآليات حماية المستهلك"، إلا أن المشكلة تكمن بحسب نجم في أن هذا القانون ما يزال غير مفعل بشكل جاد، ولم يُطبق على نطاق واسع، ما يجعل الغالبية العظمى من هذه الأنشطة تعمل في منطقة غير منظمة قانوني.
ويرى نجم أن هذه المشاريع، رغم بساطتها، تؤدي دورا مهما في تخفيف نسب البطالة، وتعزيز ثقافة العمل الحر، وتمكين الأفراد اقتصاديا، لكنها تظل محصورة في القطاع غير الرسمي، ما يقلل من أثرها على الناتج المحلي الإجمالي، ويجعلها عرضة للتقلبات والمخاطر.
ويشدد على أهمية دمج هذه الأنشطة ضمن خطة وطنية تنموية شاملة، تضمن تسهيل إجراءات الترخيص والتسجيل، وتوفير بيئة ضريبية مرنة، إلى جانب منح الحماية الاجتماعية لأصحاب هذه المشاريع. فالمطلوب ليس فقط تنظيم السوق الإلكتروني، بل تحفيز نموه وتحويله إلى مورد ثابت ومستدام للاقتصاد العراقي.
تجارة تحقق مردودا ماليا جيدا
من جهتها، تقول اسيل عبد الكريم، شابة قررت ترك وظيفتها كمحاسبة في الاسواق والمولات التجارية، وفتح متجر الكتروني، إن قرارها بالاستقالة لم يكن سهلا، لكنه كان ضروريا: "بعد أن شعرت بأن العمل في تلك البيئة لم يكن يقدر جهودي، ولا يوفر لي أبسط مقومات الأمان المهني، كالتأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي".
وتوضح عبد الكريم، أنها رغم التزامها في وظيفتها السابقة، كانت تشعر بالإحباط نتيجة غياب التقدير وغياب فرص التطور، مضيفة انها تعمل لساعات طويلة تحت ضغط مستمر، دون وجود حماية حقيقية أو مستقبل مهني واضح، "وهذا ما دفعني للتفكير ببدائل تعكس شغفي وتحقق لي مردودًا أفضل".
وتتابع أنها قررت دخول عالم التجارة الإلكترونية، حيث أطلقت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي، متخصصة بجلب الملابس من موقع "شي إن"، والبدء بعرضها عبر بث مباشر تتواصل فيه مع الزبائن، وتعرض القطع بنفسها، مع شرح مفصل حول الخامة، القياسات، وطريقة التنسيق، مؤكدة أن الأرباح التي بدأت تحققها من هذا المشروع فاقت بكثير ما كانت تتقاضاه من عملها السابق، بل وتمكنت خلال فترة قصيرة من بناء قاعدة عملاء واسعة وثقة متزايدة من المتابعين.