في مشهدٍ يعكس عمق الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد، تحوّلت قبة البرلمان، امس الاول، إلى ساحة صراع مفتوحة، تسودها لغة التراشق الطائفي والمشادات الكلامية، بدل أن تكون منبرًا للتشريع والرقابة والحفاظ على مصالح الشعب؛ فجلسة الثلاثاء التي كان يُفترض أن تناقش قوانين مهمة، كشفت حجم الانحدار المؤسسي والأخلاقي الذي يعيشه مجلس النواب، بعدما بات أقرب إلى "مسرح للفوضى والانقسام" منه إلى مؤسسة دستورية رصينة.
وفيما يئنّ المواطنون تحت وطأة أزمات اقتصادية وأمنية خانقة، يغرق ممثلوهم في صراعات عقيمة، تعكس انسداد أفق المنظومة السياسية القائمة على المحاصصة، وتضع شرعية البرلمان على المحك، بل وتهدد ثقة الشارع بكل ما تبقى من ركائز الدولة.
استفحال أزمة منظومة المحاصصة
يقول الرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، إنّ "ما شهدناه أمس الاول في مجلس النواب، يُشير إلى وضعٍ بائسٍ ومثير للأسى، يكشف إلى أين وصلت المؤسسة التشريعية، وهي مؤسسة أساسية وركيزة من أهم ركائز النظام الديمقراطي ونظام الدولة".
ويضيف في حديث لـ"طريق الشعب"، "لاحظنا ليس فقط السلوك المشين لبعض النواب، والذي وصل إلى حد التراشق بالمفردات والصراع بالأيدي والاشتباك، وإنما أيضًا – وربما هذا الأخطر – اللغة التي استُخدمت: لغة طائفية بامتياز، تصدر عن ممثلين ونواب يُفترض أنهم يُمثلون الشعب".
ويشير الى ان "هذا يُعبر عن الأزمة المستفحلة لمنظومة حكم المحاصصة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية، والتي تظهر تداعياتها في هذه الأحداث المتلاحقة من حرائق، وصفقات فساد، وفضائح على كل المستويات، وفي التدهور الأمني، وتقاطع عمل واداء المؤسسات العسكرية والامنية، بل وحتى داخل المؤسسة القضائية".
ويؤكد أن "المنظومة الحاكمة التي تعاني من أزمة بنيوية، اليوم باتت تفقد القدرة على إدارة صراعاتها، ويبدو أن الصراعات البينية تتفاقم داخل كل هذه الأطياف والأحزاب الطائفية، سواء السنية أو الشيعية أو غيرها"، مشيرا الى ان "ما يحدث الآن هو ناقوس إنذار لكل المواطنين، ليشعروا أن هذه المنظومة، التي تحاول عبر هيمنة المال السياسي واستخدام النفوذ وموارد الدولة في الملف الانتخابي، أن تجعل من الانتخابات المقبلة أداة لتدوير الوجوه، لا أداة لإحداث انتقال نوعي وتغيير فعلي في الوضع السياسي".
ويعد الرفيق فهمي، أن ما يحصل يمثل "تحدّيا كبيرا، لكنّه أيضًا مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الناس، ليس فقط من خلال المشاركة في العملية الانتخابية، بل في مختلف مجالات الحياة"، لافتا الى أن "هذا المجلس لم يُشرّع سوى القوانين الإشكالية، القوانين الجدلية التي تُقسّم المجتمع العراقي، في الوقت الذي يواجه فيه العراق تحديات خطيرة جدًا خارجيًا، تمس سيادته وثرواته وحتى تماسكه الوطني".
ويختتم الرفيق رائد فهمي حديثه بأن "الظروف الراهنة تحتم اعلاء كلمة الوطنية والمواطنة، وكل ما يوحّد العراقيين. لكننا نلاحظ أن هؤلاء يذهبون في الاتجاه المعاكس تمامًا، فيكرّسون الطائفية ويؤججون الانقسام المجتمعي، ويجعلون العراق مكشوفًا وفريسة سهلة لكل الأجندات، بالإضافة إلى أجنداتهم الداخلية التي تقوم على إدامة الفساد، والمحسوبية، وتفكك الدولة".
استقطاب طائفي
من جهته، اتهم الاكاديمي والمحلل السياسي د. جاسم الموسوي، مجلس النواب بـ"تحويل مقر السلطة التشريعية إلى ساحة للتجاذبات الطائفية"، معتبراً أن ما جرى اخيراً من تراشق وخطابات انفعالية يعكس "الهوية الحقيقية لأعضاء في البرلمان الذين ما زالوا رهائن لمشاريعهم الطائفية ومعتقداتهم الضيقة، بدلًا من الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الوطنية".
وقال الموسوي في حديث مع "طريق الشعب"، إن “ما يحدث داخل البرلمان يتجاوز كونه خلافاً سياسياً طبيعياً، ويمكن القول انه ارتدادٌ خطير إلى نزاعات طائفية كامنة في ذاكرة وسلوك كثير من النواب، وهو ما يكشف عن فشل عميق في بناء مشروع الدولة ومأسسة العمل النيابي وفق مبادئ المواطنة”.
وأضاف أن البرلمان بات عاجزاً عن تقديم أي إنجاز تشريعي أو رقابي، وأن “الشرعية الوحيدة التي يسعى إليها كثير من أعضائه هي شرعية الظهور الإعلامي ودغدغة مشاعر المواطنين، فهم يبحثون عن شرعية طائفية لا شرعية الإنجاز أمام المواطن”.
وأشار الموسوي إلى أن ما وصفه بـ”التحشيد الطائفي” لم يأتِ بدافع ديني أو عقائدي صادق، بل بدافع انتخابي بحت، قائلاً: “هؤلاء النواب لا يتمسكون بعقائدهم بقدر ما يستثمرونها كأداة هروب من فشلهم المزمن في التشريع والرقابة”.
وأكد أن الدورة النيابية الحالية هي “الأسوأ على الإطلاق”، بسبب غياب أي دور رقابي فعّال، وعدم مساءلة أي مسؤول حكومي أو استضافة وزير واحد، فضلًا عن استغلال المنصب البرلماني لمصالح شخصية بدلًا من توظيفه في خدمة الدولة.
عمل مخزٍ
وفي السياق، وصف القاضي المتقاعد وعضو مجلس النواب السابق وائل عبد اللطيف ما جرى داخل قبة البرلمان من تراشق طائفي وعراك لفظي بأنه “عملٌ مخزٍ” يسيء لمكانة مجلس النواب، ويفضح حجم التراجع السياسي الذي تعانيه الدولة، مؤكداً أن ما صدر من سلوكيات لا يعبّر عن مؤسسة تمثّل الشعب بكل مكوناته، بقدر ما ينوه الى ان هذه المؤسسة امست تمثل اطرافا وزعامات وأفرادا ما زالوا أسرى للطائفية والانتماء الضيق.
وقال عبد اللطيف لـ"طريق الشعب"، ان “ما شاهدناه من تصرفات لا يليق بمن يُفترض أنه يمثّل العراقيين جميعاً، بغض النظر عن الدين أو المذهب أو اللون أو الطبقة الاجتماعية. هذا البرلمان كان من المفترض أن يكون فوق هذه الانقسامات لا أن يغرق فيها”.
وأضاف أن “الأساس الذي بُني عليه الدستور، وخصوصاً في باب الحقوق والحريات، ينص على أن العراقيين متساوون في الحقوق والواجبات. فكيف ننتظر من المواطن أن يؤمن بالمواطنة والدولة، إذا كانت السلطة التشريعية نفسها عاجزة عن التحرر من الطائفية؟”
وأكد أن الدورة النيابية الحالية محمّلة بالضعف والانقسام، متأملا أن تكون "الدورة المقبلة مختلفة، وأن تستعيد شيئاً من المهنية التي كانت حاضرة في دورات سابقة".
صراع يكرّس الانهيار المؤسسي
الى ذلك، حذّر الخبير القانوني والمراقب للشأن السياسي، أمير الدعمي من أن ما يشهده مجلس النواب، اليوم، لا يمكن عزله عن مشهد أوسع من الانهيار المؤسسي الذي يضرب بنية الدولة العراقية، مؤكدًا أن ما يحدث داخل البرلمان من انقسامات وصراعات طائفية يُعبر عن أزمة وخلل عميق يشمل الحكومة والمؤسسة التشريعية معاً.
وقال الدعمي في حديث لـ"طريق الشعب"، إنّ “الصراع الدائر في مجلس النواب بلغ مستويات غير مسبوقة من الانحدار، خصوصاً حين يُدار بخطاب طائفي متدنٍّ ومكشوف"، مشيرا إلى أن “هذا الانفلات مرتبط بصراع محتدم في هيئة الرئاسة نفسها، وهو ما انعكس على الأداء التشريعي، وأدى إلى شلل واضح في إدارة الجلسات”.
وأضاف أن “هذا التنافس على رئاسة البرلمان لا يجري بشكل مؤسسي، بل يجري عبر أدوات سياسية تضغط خلف الكواليس بواسطة قوى سياسية متنفذة وتسعى لإفشال البرلمان من الداخل”.
وكرر الدعمي وصف الدورة البرلمانية الحالية بأنها “الأسوأ على الإطلاق”، مشيرًا إلى غياب كامل للدور الرقابي، وتوقف تمرير التشريعات، وافتقار البرلمان لأي تحرّك فعلي منذ أكثر من عام، معتقدا أن “حلّ البرلمان قبل 45 يوماً من موعد الانتخابات القادمة قد يكون الخيار الأفضل لإنقاذ ما تبقى من المشهد السياسي”.
فيما اعتبر النائب السابق أيوب الربيعي أنّ جلسة الثلاثاء بعثت رسائل سلبية للرأي العام، تتمحور حول "تكريس حجم الانقسام والاحتدام بين الكتل السياسية"، محذرا من أن تقود هذه التوترات إلى ردات فعل غير محسوبة.