اخر الاخبار

في وقت تتطلع فيه البصرة إلى تنفيذ مشاريع تنموية واستثمارية تنقذها من واقع الخدمات المتردي، تكشف شهادات مسؤولين وناشطين عن عمق الفساد المستشري في ملف العقارات وأراضي الدولة، وسط تواطؤ إداري وغياب واضح للرقابة والمساءلة.

مافيات تستولي على الأراضي

وقال المراقب للشأن المحلي أبو الحسن الشاوي، من قضاء المدينة في محافظة البصرة، ان "مشكلة قطع الأراضي تبدأ من التفاصيل الصغيرة. عند إجراء عمليات إفراز جديدة، نجد بعض الموظفين في دوائر التسجيل العقاري، خصوصاً في البلديات، يتعمدون استغلال نفوذهم، ويتصرفون وكأنهم في دولة لا تخضع لأي رقابة أو محاسبة"، مشيرا الى ان "هؤلاء يتحكمون في فضلات الأراضي، ويقومون ببيعها وكأنها ملك خاص، بينما هي في الأساس أملاك دولة تابعة لوزارة البلديات أو المالية".

وكشف الشاوي في حديث لـ"طريق الشعب"، عن تفاصيل تتعلق بملف الأراضي في القضاء، وما يرافقه من فساد إداري وهيمنة لجهات متنفذة، وسط غياب شبه تام للرقابة وضعف الأداء في الدوائر الحكومية المعنية.

وأضاف الشاوي، أن أحد أبرز الأمثلة على هذا الفساد تمثل في قطعة أرض واسعة بمساحة 950 دونما، كانت تابعة لوزارة المالية، وقد أصبحت موضع صراع بين عدة جهات داخل المدينة، وتطور الموقف إلى تهديدات مباشرة.

وأكد أن الجهة التي سيطرت على الأرض في النهاية تنتمي إلى "العصائب"، مضيفاً أن "هذه الأرض ما زالت مستولى عليها، والبلدية تتفرج دون أن تتدخل، رغم أن القضاء يعاني من غياب أبسط الخدمات الأساسية".

أساليب مشبوهة

ويعاني قضاء المدينة، بحسب الشاوي، من نقص حاد في المباني الحكومية. فمعظم الدوائر الخدمية مثل التقاعد والمرور والجوازات، إضافة إلى الرعاية الاجتماعية والأمن الوطني ومكتب التشغيل، تعمل من كرفانات أو غرف صغيرة مؤقتة، في وقت تُدار فيه أراضٍ شاسعة من القضاء كمشاريع استثمارية تُمنح بطرق مشبوهة.

وأشار الشاوي إلى قطعة أرض أخرى مساحتها 1,500 دونم كانت تُستخدم كموقع لتربية طيور السمان، وقد تم تحويلها إلى مشروع استثماري عن طريق المزايدة والمناقصة، دون أن تستفيد المدينة منها "هذه الإجراءات تُحرم أهالي المدينة من حقوقهم، وتُسهم في تفاقم الفجوة بين احتياجات السكان وما توفره الدولة من خدمات".

وفي ما يتعلق بملفات الفساد، أكد الناشط أنه قدم شكاوى ومستندات عديدة إلى هيئة النزاهة الاتحادية في البصرة، تتضمن مخالفات ضمن مشاريع تشغيلية لبلدية القضاء، حيث يتم الاتفاق على تمرير المشاريع الصغيرة التي تقل قيمتها عن 100 مليون دينار، والتي تخضع لتصرفات البلدية ومدير بلديات البصرة، ومنها مشاريع تجهيز الحاويات الحديدية والبلاستيكية وإنشاء المتنزهات.

وأشار الشاوي الى انه قبل أيام طالب هيئة النزاهة الاتحادية في البصرة، أن "تجري عمليات تحقيق ميدانية في قضاء المدينة، ضمن حملة مكافحة الفساد الإداري، لوضع حد لملف قطع الأراضي التابعة للدولة وإعطائها لبعض الجهات والشخصيات بحجة الاستثمار أو بيعها رُبما بطريقة غير قانونية، وهذهِ الأراضي بعضها تكون تابعة لوزارة البلديات او وزارة المالية".

واختتم الشاوي حديثه بالقول "نحن نعرف أن هناك فساداً كبيراً في وزارات مثل النفط، لكن الفساد الموجود في البلديات أضعاف مضاعفة، لأنه يلامس حياة الناس اليومية بشكل مباشر"، واكد ان "التفاصيل كثيرة، لكن المشكلة في غياب المساءلة".

الفساد.. منظومة مترابطة

ويقول الناشط السياسي احمد محمد الحجاج إن "الفساد في محافظة البصرة لم يعد مجرد حالات فردية، بل أصبح منظومة مترابطة تخترق مؤسسات الدولة، وتعرقل جهود الإعمار والتنمية. وأكد أن ما تم كشفه مؤخرا من تلاعب في قيود عقارات الدولة ليس إلا جزء بسيط من واقع أكثر تعقيد وخطورة".

وأضاف لـ "طريق الشعب"، أن "البصرة تعاني من تواطؤ بين جهات نافذة ومسؤولين محليين، حيث تُمنح الأراضي وتُنهب الأملاك العامة باسم المشاريع الوهمية أو التخصيصات غير القانونية"، مؤكدا أن "هذه الممارسات تؤكد غياب الرقابة الفعالة وتقصير الجهات الرقابية في أداء واجبها".

ودعا الحجاج الحكومة الاتحادية وهيئة النزاهة إلى التحرك العاجل لفتح ملفات الفساد في البصرة ومحاسبة كل من تورط أو تستر على التجاوزات، مؤكدا أن حماية المال العام واستعادة أملاك الدولة هما الخطوة الأولى نحو بناء دولة العدالة والقانون.

وخلص الى القول ان "البصرة تستحق أفضل من هذا الواقع، وعلى القوى الوطنية والشرفاء أن يوحدوا جهودهم لإنقاذها من براثن الفساد والمفسدين".

غياب الرقابة الشعبية

وأكد فلاح الأميري مسؤول معهد نيسان للديمقراطية، أن "غياب الرقابة الشعبية وتغوّل الفساد المالي والإداري يشكلان تهديداً حقيقياً لجوهر النظام الديمقراطي، محذراً من محاولات بعض الأطراف تقويض هذا النظام من خلال تعطيل أدواته الأساسية، وعلى رأسها رقابة المواطنين".

وقال الأميري لـ "طريق الشعب"، إن "الرقابة الشعبية، أو ما يُعرف بالرقابة المجتمعية، تمثل ركن أساسياً في البناء الديمقراطي، وهي اليد الثانية لسلطة الشعب إلى جانب الانتخابات، ومن دونهما تفقد الديمقراطية توازنها وتتحول إلى نظام تفردي أقرب إلى الديكتاتورية في الأداء".

وأضاف أن "الناشطين هم في الأصل الناخبون أنفسهم، وهم من يملكون حق متابعة أداء السلطة وتصحيح مسارها، لضمان عدم الانحراف عن المبادئ الديمقراطية، أو تغليب المصالح الحزبية والفردية على المصلحة العامة".

وتابع أن "الفساد المالي والإداري المستشري في العديد من مفاصل الدولة تغذّى من غياب هذه الرقابة، بل إن بعض المؤسسات أصبحت تنظر إلى الرقابة المجتمعية على أنها تهديد، وتسعى إلى تحييدها تحت ذرائع واهية مثل الإخلال بالنظام، بينما في الحقيقة، فإن هذه الرقابة تمثل وسيلة تصحيح وتقويم للعمل الإداري والسياسي".

ولفت الأميري الى ان "العمل في الظلام يُرضي الفاسدين ويُعزز سلوكهم، ويؤدي إلى هدر المال العام، وتأخير عجلة الإعمار والتنمية"، مؤكداً أن "الرقابة المجتمعية ليست فقط وسيلة لكشف الفساد، بل سلاح وقائي حيوي يسبق حتى دور أجهزة الرقابة الرسمية".

وتساءل الأميري في ختام حديثه "إذا لم تكن الرقابة الشعبية ذات أهمية، فلماذا تنشئ المؤسسات الحكومية خطوطاً ساخنة لتلقي الشكاوى والملاحظات من المواطنين؟ أليس ذلك اعترافاً صريحاً بأن المواطن شريك أساسي في الرقابة وحماية المال العام؟".