رغم أن العراق يُعد واحدا من أغنى بلدان المنطقة بالتراث الإنساني والحضاري، ويحتضن مواقع أثرية وسياحية لا نظير لها في العالم، إلا أن هذا المخزون التاريخي الهائل يقف حبيس الإهمال وسوء الإدارة. لا فنادق حديثة، لا خدمات متكاملة، ولا رؤية واضحة للنهوض بالقطاع السياحي الذي يمكن أن يشكل رافدًا اقتصاديًا كبيرًا إلى جانب النفط.
في الوقت الذي تتسابق فيه دول الجوار لتطوير معالمها السياحية وتحويلها إلى وجهات عالمية، ما زال العراق يتعثر في تطوير حتى أبسط البنى التحتية في مناطقه الأثرية، من دورات مياه ومواصلات، إلى مطارات ومنافذ حدودية.
احتياجات السائحين
وذكر رئيس الملتقى السياحي في العراق، وليد الزبيدي أن "القطاع الخاص يضطلع بدور مهم في دعم النشاط السياحي، من خلال تقديم خدمات جيدة في مجالات الفنادق والمطاعم والمرافق الترفيهية.
وبرغم محدودية عدد هذه المرافق في عموم البلاد، يقول الزبيدي لـ "طريق الشعب"، أنها تفي إلى حد ما باحتياجات السائحين، سواء من داخل العراق أم خارجه. ويضيف أن القطاع الخاص يحرص على تطوير البنية التحتية والخدمات المقدمة في هذه المرافق، بهدف تحسين تجربة الزائر وتعزيز جاذبية المشاريع السياحية.
وينتقد الزبيدي الإهمال الواضح الذي تعاني منه المواقع الأثرية في العراق، برغم قيمتها الحضارية والتاريخية الممتدة لآلاف السنين، مبينا أنها تفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية مثل دورات المياه، مراكز التسوق، الخدمات الصحية، والنقل، وهو ما يؤثر سلبا على مستوى رضا الزائرين، ويقلل من فرص استقطاب السياحة الثقافية.
رموز حضارة العراق
ويشدد على أن هذه المواقع، التي يعرفها العالم بأسره كرموز لحضارة بلاد ما بين النهرين، لا تحظى بالاهتمام الذي يتناسب مع أهميتها التاريخية، مشيرًا إلى أن "السنوات الأخيرة شهدت نسبيا تزايدا في أعداد السياح الوافدين إلى العراق، خصوص بعد تنظيم فعاليات رياضية وثقافية كبرى مثل بطولة خليجي 25 في البصرة واختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.
ويعتقد أن هذه المناسبات أسهمت في تحريك القطاع السياحي واستقطاب المجاميع السياحية من الدول العربية والأجنبية، لكن حجم هذا الاستقطاب لا يزال دون مستوى الطموح مقارنة بإمكانات العراق الثقافية والحضارية.
كما يبين أن "الواقع الأمني والسياسي في العراق والمنطقة يمثل تحديا كبيرا أمام تطوير السياحة"، لافتا إلى أن "أية اضطرابات أو توترات إقليمية أو داخلية تؤثر بشكل مباشر على قرار السائح في اختيار العراق كوجهة"، موضحا أن "الاستقرار هو من أبرز العوامل التي يضعها السائح في اعتباره، وأن استمرار الأزمات السياسية ينعكس سلبا على ثقة الأسواق السياحية".
ويتحدث الزبيدي عن التحديات التي تواجه قطاع النقل والمنافذ الحدودية، حيث يجد أن "مطار بغداد الدولي، الذي يمثل البوابة الجوية الرئيسية للعراق، يعاني من ضعف في البنية التحتية، بالرغم من أن عمره يزيد على خمسين عاما، ولا يرقى إلى مستوى المطارات الحديثة في المنطقة".
ويؤشر إلى تردي حالة الطرق الخارجية التي تربط المدن والمواقع السياحية، موضحًا أنها قديمة وتفتقر للتحديث، ما يؤثر على سهولة التنقل وسلامة المسافرين.
أما في ما يتعلق بالمنافذ الحدودية، فيوضح أنها تشهد اختناقات واضحة، خاصة خلال المناسبات الدينية الكبرى مثل زيارة الأربعين، حيث تتدفق أعداد ضخمة من الزائرين إلى البلاد، لافتا الى أن هذه المنافذ تفتقر إلى التنظيم والتوسعة اللازمة لاستيعاب هذه الأعداد، ما يؤدي إلى تكرار المشاكل والمعاناة في كل عام.
وفي ختام حديثه، يشدد رئيس الملتقى السياحي على ضرورة إجراء إصلاحات شاملة في القطاع، تبدأ بتطوير البنية التحتية والخدمات، وتمر بتحسين بيئة الاستثمار في السياحة، وتنتهي بتهيئة مناخ آمن ومستقر يشجع على جعل العراق وجهة جاذبة للسياح من مختلف دول العالم.
الف موقع سياحي واثري
وبرغم غناه التاريخي والثقافي، ما يزال العراق يعاني من ضعف واضح في البنية التحتية السياحية، وعلى رأسها غياب الفنادق الحديثة في أبرز مواقعه الأثرية والدينية، الأمر الذي يحد من قدرته على جذب السياح والمستثمرين، ويجعل من زيارة هذه الكنوز تجربة غير مكتملة.
يقول الباحث في الآثار والمرشد السياحي محسن حسن، إن "العراق يضم أكثر من ألف موقع أثري وسياحي وديني، جميعها قابلة للتطوير وتهيئة البنية الفندقية حولها". ويشير إلى أن الاستثمار في المرافق السياحية لا يزال محدودا للغاية، رغم الإمكانيات الهائلة التي يتيحها القطاع.
وبحسب حسن، فإن العديد من المواقع التاريخية المهمة، مثل أور وأريدو والوركاء في الجنوب، لا تحتوي سوى على نُزل بسيطة أو أبنية قديمة تفتقر لأبسط المعايير الفندقية.
وأضاف انه "لا يمكن الحديث عن تنشيط السياحة الداخلية أو استقطاب الزوار الأجانب، ما لم تُعالج هذه الثغرات الأساسية، بدءاً من الفنادق إلى المرافق الخدمية".
ويمتلك العراق ستة مواقع مدرجة على لائحة التراث العالمي لليونسكو، تعكس تنوعه الحضاري والثقافي والطبيعي، من أبرزها مدينة الحضر الأثرية، المدرجة منذ عام 1985، والتي تقع في محافظة نينوى وتعدّ من أقدم المدن المحصنة، وتحوي معابد ومباني شاهدة على امتزاج الطرازين البارثي والروماني.
كما أن أهوار جنوب العراق التي أدرجت عام 2016، تمثل واحدة من أهم النماذج البيئية والثقافية الفريدة في الشرق الأوسط، لما تضمه من تنوع بيولوجي ومواقع أثرية مثل أور وأريدو والوركاء. ومع ذلك، فإن هذه المناطق تفتقر إلى أي بنية استقبال سياحي متكاملة.
ووفقا لحسن فإن الزائرين لتلك المواقع يعانون من قلة الفنادق المصنفة، وانعدام المراكز الإرشادية الحديثة، ومحدودية وسائل النقل والاتصال، في وقت تتسابق فيه دول الجوار على تطوير مواقعها التاريخية وتحويلها إلى وجهات جذب عالمية.
ويختتم محسن حديثه بالتأكيد على أن "السياحة ليست فقط ماضيا يجب استكشافه، بل اقتصاد مستقبلي يمكن أن يدعم المدن الصغيرة ويوفر آلاف فرص العمل، إذا ما تم استثماره بوعي وتخطيط".
مشكلات متعددة
من جانبه، يقول نقيب السياحيين العراقيين، محمد العبيدي، إن "القطاع السياحي يواجه مشكلات متشعبة ومعقدة، تبدأ من ضعف البنية التحتية وتصل إلى سوء الإدارة وغياب التخصص، ما يؤثر بشكل مباشر على قدرة العراق في أن يكون وجهة سياحية حقيقية".
وأوضح العبيدي لـ "طريق الشعب"، أن "البنى التحتية السياحية ما تزال متردية بشكل واضح، حيث تفتقر البلاد إلى الفنادق المؤهلة، والشركات السياحية الفاعلة، ووسائل النقل الحديثة، بالإضافة إلى ضعف الخدمات الأساسية مثل الاتصالات، الإنترنت، الطرق، والمرافق الخدمية، وهو ما يعيق نمو هذا القطاع الحيوي".
وأضاف أن "الإشكالية لا تقف عند حدود البنية التحتية، بل تمتد إلى طبيعة الإدارة نفسها، إذ أن معظم المؤسسات السياحية تعاني من غياب التخصص وندرة الكفاءات التي تمتلك خلفية أكاديمية أو مهنية في السياحة".
وبين أن القطاع السياحي بطبيعته قطاع خدمي يعتمد على العنصر البشري والتواصل المباشر مع الزوار، ويتطلب مهارات عالية في التعامل والإدارة لا يملكها سوى المختصون، وهو ما لا يتوفر في معظم مؤسسات السياحة الرسمية التي غالبًا ما تدار من قبل أشخاص يفتقرون إلى المؤهلات المناسبة.
ضرر الفساد
وأشار إلى أن "الفساد الإداري يمثل تحديًا آخر لا يقل خطورة عن الفساد المالي"، مؤكدًا أن الضرر الناتج عن سوء الإدارة وغياب الكفاءات لا يمكن تعويضه كما هو الحال في الأموال. ووصف وضع المناصب الإدارية في المؤسسات السياحية بأنه "الرجل غير المناسب في المكان المناسب"، ما ينعكس سلبا على الأداء والنتائج، رغم أن العراق يمتلك جميع مقومات السياحة من معالم تاريخية وآثار وتراث وثقافة وسياحة دينية تشكل كنزًا هائلًا لا يُستثمر كما ينبغي.
وأوضح أن الحديث عن الفساد بات متداولا في الإعلام، وغالبا ما يصدر عن مسؤولين حكوميين بأنفسهم، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب الوثائق الحاسمة والإجراءات الرادعة، ما يجعل التصريحات بلا أثر عملي. ولفت إلى أن الوضع السياسي الداخلي، وخاصة نظام المحاصصة، شكل عائقا كبيرا أمام تطور السياحة، لأنه فرض شخصيات غير مؤهلة في مواقع اتخاذ القرار، وكرّس الانقسام الإداري بين الوزارات والمؤسسات.
وأكد أن تنشيط القطاع السياحي لا يمكن أن يتم بمعزل عن باقي الوزارات والمؤسسات الخدمية، فالسياحة بحاجة إلى تعاون حقيقي مع أمانة بغداد، ووزارة الإسكان، والنقل، والداخلية وغيرها، لضمان توفير بيئة مناسبة للسائح، لكن هذا التعاون مفقود في ظل نظام سياسي يفتقر إلى الانسجام المؤسسي، ويقوم على مبدأ التنافس بين الوزارات بدلاً من التكامل.
وختم بالقول إن النهوض بالقطاع السياحي في العراق يتطلب عملا وطنيا موحدا، تتضافر فيه الجهود بعيدا عن المحاصصة السياسية، مؤكدا الأمل أن يشهد المستقبل خطوات جدية تتجه نحو إصلاح هذا القطاع الحيوي ووضعه على الطريق الصحيح، بما يعكس مكانة العراق الحقيقية كبلد غني بتراثه وتاريخه وموقعه الجغرافي.