بين تقلبات الأسعار العالمية وضغوط الداخل الاقتصادي، يجد العراق نفسه أمام معادلة معقدة تفرضها تحولات سياسة تحالف “أوبك بلس”، الذي بات يتحرك في مساحة ضيقة بين الحفاظ على تماسكه الداخلي واستيعاب المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة.
ففي خضم هبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ أربع سنوات، اتخذ التحالف قراراً يقضي برفع الإنتاج تدريجياً، ما فتح باب النقاش حول دوافع هذا التغيير، وتداعياته على الدول الأعضاء، وعلى رأسها العراق الذي يعاني من تحديات مالية وهيكلية مزمنة.
ويتجه النفط نحو تسجيل أكبر خسارة أسبوعية له منذ عامين، بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، حيث تحوّل تركيز المستثمرين من النزاع في الشرق الأوسط، إلى مفاوضات التجارة الأميركية.
واستقر خام "برنت" قرب 68 دولاراً للبرميل، منخفضاً بنحو 12% خلال الأسبوع الاخير، في حين تداول خام "غرب تكساس" الوسيط فوق 65 دولاراً، وفقا لوكالة "بلومبرغ".
ومع استمرار التهدئة الهشة، بدأ المستثمرون بتحويل اهتمامهم إلى التقدم في المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وقال وزير التجارة هوارد لوتنيك إن اتفاقاً تم التوصل إليه الشهر الماضي.
ويُعتقد أن اهتمام سوق النفط سيتجه إلى تحالف "أوبك+" واحتمال تنفيذ زيادة كبيرة أخرى في حصص الإنتاج.
ومن المقرر ان يجتمع التحالف في 6 تموز المقبل لاتخاذ قرار بشأن سياسة الإنتاج لشهر آب.
تحول استراتيجي وسط ضغوط اقتصادية
وفي هذا السياق، يشير أستاذ الاقتصاد الدولي، د. نوار السعدي، الى ان القرارات الأخيرة التي اتخذها تحالف -أوبك بلس- نهاية أيار الماضي، تمثل تحولاً استراتيجياً في طريقة إدارة التحالف للسوق النفطية، في ظل تراجع حاد بأسعار النفط العالمية التي انخفضت مؤخراً الى ما دون 62 دولاراً للبرميل.
ويقول السعدي في حديث لـ "طريق الشعب"، إن قرار -أوبك بلس بزيادة الإنتاج تدريجياً اعتباراً من تموز المقبل، رغم وجود فائض نسبي في المعروض، لم يكن مفاجئاً، بل عكس رغبة بعض الدول المؤثرة في التحالف، وعلى رأسها روسيا، في استعادة حصصها السوقية التي فقدتها خلال الفترة الماضية".
ويضيف أن القرار جاء "نتيجة توازنات داخلية معقدة داخل التحالف؛ فبينما فضّلت دول مثل السعودية مواصلة سياسة خفض الإنتاج لضبط السوق ودعم الأسعار، رأت دول أخرى مثل روسيا والعراق أن استمرار التخفيضات الطوعية يُثقل كاهل اقتصاداتها ويحد من قدرتها على تحقيق إيرادات نفطية تواكب التزاماتها المالية المتزايدة".
ويرى ان "الاتفاق على التراجع التدريجي عن التخفيضات شكّل حلاً وسطاً يحافظ على وحدة التحالف، مع السماح بزيادة الإنتاج تدريجياً".
وفي ما يتعلق بانعكاساته على العراق، يجد السعدي أن الأثر مزدوج: "من جهة، أتاح للعراق فرصة رفع إنتاجه بدءاً من نيسان الماضي، ما قد يسهم في تعزيز إيراداته النفطية، التي تُعد المصدر الأساسي لميزانيته". و"من جهة أخرى، فإن استمرار انخفاض الأسعار قد يحد من العوائد المتوقعة، لا سيما في ظل التحديات التي يواجهها العراق في إدارة إنتاج إقليم كردستان، وعدم التزامه الكامل في أوقات سابقة بحصته ضمن التحالف، حيث تجاوز سقف الإنتاج المسموح به".
ويخلص السعدي الى أن قرارات -أوبك بلس- تعكس محاولة لتكييف السياسات الإنتاجية مع متغيرات اقتصادية وجيوسياسية معقدة، لكنها في الوقت ذاته تبرز هشاشة التفاهمات داخل التحالف، مرجحا أنه "إذا لم تشهد الأسعار تعافياً واضحاً خلال الأشهر المقبلة، فقد تؤدي زيادة الإنتاج إلى تفاقم تخمة المعروض، ما سينعكس سلبًا على اقتصادات الدول المنتجة، وفي مقدمتها العراق".
تحديات اقتصادية معقدة
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي صالح الهماشي، إن تحالف “أوبك بلس” "يحاول منذ نحو أربع سنوات التعامل مع مشاكل داخلية تتعلق بالإنتاج وتقلبات أسعار النفط، عبر سياسات خفض الإنتاج لضبط السوق".
وأضاف الهماشي لـ"طريق الشعب"، أن "السعودية وروسيا بادرتا في المرحلة الأولى بخفض حصص إنتاجهما، فيما لم يلتزم العراق حينها بتقليص إنتاجه، بسبب أوضاعه الاقتصادية الصعبة وافتقاره إلى مصادر بديلة للإيرادات".
وأوضح أن أوبك بلس "فرضت لاحقًا تخفيضات متفاوتة على جميع أعضائها، بمن فيهم العراق، رغم محاولاته المتكررة للاعتذار عن الالتزام بسبب حاجاته الاقتصادية العاجلة"، مشيرا الى أن "التطورات الجيوسياسية، ولا سيما تراجع حدّة الحرب الروسية - الأوكرانية، ساهمت في تدفق النفط الروسي إلى الأسواق، ومع احتمال توصل إيران إلى تفاهمات بخصوص تصدير نفطها، قد تدخل كميات إضافية تقدّر بثلاثة ملايين برميل يومياً إلى السوق، وهو ما قد يضغط بشدة على الأسعار العالمية".
وبخصوص العراق، أشار إلى أن "الضغوط لا تتوقف عند حدود الالتزام بحصص الإنتاج، بل تمتد إلى ملفات داخلية حساسة، من بينها تهريب النفط من إقليم كردستان، وتدخل بعض الجهات الإقليمية في هذا الملف، فضلًا عن ضعف جباية الدولة للإيرادات المحلية".
ولفت الى انه "وسط كل هذا ما تزال الإيرادات غير النفطية بمستوى سيئ، ولا تشكل سوى 7 بالمائة فقط من حجم الواردات"، مبيناً ان "مشكلة كل الحكومات المتعاقبة وبضمنها حكومة السوداني، هي انها لا تميز بين الاقتصاد والمالية، فهم ينظرون للإيرادات على أنها مالية، لكنها بواقع الحال هي نتاج لنشاط اقتصادي".
وتابع قائلاً ان "الية الحكومة لتعزيز الإيرادات غير النفطية، عن طريق رفع الضرائب أثبتت فشلها، لان رفع الضرائب سيخفف الإيرادات كونه سيؤدي الى تقليل الاستهلاك والركود في السوق. العديد من دول العالم تلجأ الى خفض الضرائب من اجل تعزيز النشاط الاقتصادي والنمو والاستهلاك".
وأشار الى ان "تعزيز الإيرادات غير النفطية يجب ان يقترن بتخطيط واستثمار صحيح بمختلف القطاعات النائمة في البلاد، والتي يمكن ان تعزز هذه الإيرادات بشكل كبير، لكن حتى الآن الأمور تسير بشكل سيئ ومترد".
واختتم الهماشي حديثه بالقول: أن "مؤشرات الأداء المالي في العديد من المؤسسات الحكومية تُظهر أنها مؤسسات خاسرة، وأن القليل منها فقط يحقق أرباحاً، ما يعمّق الأزمة الاقتصادية ويحد من قدرة الدولة على الاستفادة من أي زيادة محتملة في إنتاج النفط".
ان الأوضاع الاقتصادية الراهنة في بلدنا تفرض ضرورة ملحّة لإعادة النظر في السياسات المعتمدة، والتوجه الجاد نحو تنويع مصادر الدخل الوطني، وتنمية القطاعات الإنتاجية، وحماية المنتج المحلي، والعمل الجاد من أجل ضبط وتنظيم آليات السوق، مع تقليص الاستيراد إلى أدنى حد ممكن. كما لا بد من مراجعة عقود التراخيص في قطاعي النفط والغاز بشكل يضمن مصالح العراق، ويحميه من تقلبات أسعار النفط.