في خضم صمت رسمي مقلق وتجاهل إقليمي خطر، يواجه العراق أخطر تهديد مائي في تاريخه الحديث، تهديد لا يقل فتكًا عن أي كارثة اخرى، لكن هذه المرة يأتي على شكل عطش وجفاف وزحف صحراوي.
فتركيا تقلص الإطلاقات المائية، كما تخطط هي، من دون مراعاة حقوق العراق، فيما تغير إيران مجاري الأنهار بقرارات أحادية، وبين هذا وذاك يئنّ العراق تحت وطأة خزين مائي هو الأدنى منذ تأسيس الدولة، وتوقعات بصيف قاسٍ ينذر بكارثة وجودية.
ووسط هذه الازمة الكبيرة تكتفي الحكومة بإطلاق مبادرات وإقامة مؤتمرات لم تنتج أي شيء يذكر، حيث أطلق رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، "مبادرة إقليمية" لحماية نهري دجلة والفرات، خلال فعاليات مؤتمر بغداد الدولي الخامس للمياه، الذي عقد الشهر الماضي، وغاب عنه التمثيل الرسمي لدول الجوار.
مبادرات حكومية مغلقة
ويرى خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية، رمضان حمزة، ان مبادرة رئيس الوزراء لحماية نهري دجلة والفرات من الناحية النظرية تعتبر جيدة، ولكنها على المستوى العملي وما يفرز عنها ستتحول الى إشكالية بين نشاطات وزارة الخارجية ووزارة الموارد المائية والوزارات الأخرى، وكان يجب ان تكون مبادرة وطنية ويكون التمثيل فيها رسميا وغير رسمي، إضافة الى غياب دول الجوار رغم تسميتها بمبادرة إقليمية.
وقال حمزة لـ"طريق الشعب"، ان "رئيس الوزراء لم يعلن عن مضمون هذه المبادرة بقدر ان هناك مبادرة، وتحدث بشكل مختصر جدا، فيما المطلوب ان مبادرة من هذا النوع يجب ان يكون لها عمق واستراتيجية حتى نعرف مردوداتها الإيجابية".
تركيا لا تقبل بـ"تقاسم الضرر"
وسط تفاقم أزمة المياه التي تعصف بالعراق، أكد عضو لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية، ثائر مخيف الجبوري، أن تركيا غير جادة في ملف تقاسم الضرر المائي، مشددًا على أن ما يجري يعد شكلاً من أشكال الحروب الحديثة، داعيًا إلى تحرك سيادي للرئاسات الثلاث، من أجل حماية الحقوق المائية للعراق وتأمين احتياجات مواطنيه.
ويؤشر الجبوري ارتفاعًا كبيرًا في تقليص الإطلاقات الخاصة بالعراق، مشيرًا إلى أن لجنته حضرت عدة اجتماعات بهذا الشأن بالتنسيق مع وزارة الموارد المائية ووزارة الخارجية، وبمشاركة ممثلين عن الجانب التركي "لكننا لم نتوصل إلى رؤية مشتركة حول ما أطلقنا عليه تقاسم الضرر، رغم وجود مشاكل حقيقية وكبيرة في هذا الملف".
وأضاف الجبوري أن "تركيا لا تبدو جادة في هذا الموضوع، ونحن نعدّه شكلًا من أشكال الحروب الحديثة، وتحديدًا في ملف المياه"، مؤكدًا أن لجنته طالبت الحكومة بتحمل مسؤولياتها تجاه هذا الملف الذي وصفه بـ"السيادي"، لما له من تأثير مباشر على حياة ستة وأربعين مليون عراقي، في ظل الزيادة السكانية السنوية البالغة مليونًا وخمسمئة ألف نسمة، ما يجعل الحاجة إلى المياه "ضرورة حيوية تتطلب تحركًا رسميًا عاجلًا".
ويشير الجبوري إلى أن العراق يعاني من تداعيات شح المياه، حيث تراجعت المساحات الخضراء، وأصبحت نحو 70% من أراضيه صحراوية، ما أدى إلى انعكاسات خطرة على الواقع البيئي والتغيرات المناخية والأمن الغذائي، فضلاً عن تأثير ذلك على الأهوار ومحاولات إنعاشها، في ظل ما وصفه بـ"هجمة مستمرة" على هذه المناطق الحيوية.
ويردف الجبوري بالقول ان "هناك خططا عمل عليها العراق تتعلق بالتقنيات الحديثة للري وتوفيرها للفلاحين"، كاشفًا عن تخصيص نحو 700 مليون دولار خلال ثلاث سنوات في موازنات 2023، 2024، و2025.
ويجد أن عملية تجهيز هذه التقنيات قد بدأت بالفعل، إلا أن ذلك لا يغني، حسب تعبيره، عن ضرورة استمرار التواصل مع الجانب التركي لحل الأزمة من جذورها، مشيرًا إلى أن العراق بدأ بالفعل باتخاذ إجراءات تتعلق بالترشيد والوفاء بالتزاماته تجاه دول الجوار.
ويؤكد أن اللجنة كانت لها زيارات في هذا الإطار، في محاولة لتحريك الجهود الدبلوماسية والتقنية لمعالجة أزمة المياه التي باتت تهدد الأمن الوطني والبيئي والغذائي للبلاد.
ترشيد الاستهلاك المائي
في السياق ذاته، حذّر الخبير في الشأن المائي ظافر عبد الله، من أن العراق مقبل على صيف قاسٍ وأزمة مائية غير مسبوقة، مشيرًا إلى أن الخزين المائي الحالي هو الأدنى منذ تأسيس الدولة العراقية، في ظل واردات مائية في أدنى مستوياتها، وخيارات حكومية محدودة لا ترتقي إلى حجم الكارثة.
ويشدد عبد الله في حديث لـ"طريق الشعب"، على أن الأزمة تحتاج إلى "إجراءات واقعية، حيث يعاني الإقليم بأكمله من شح مائي، وبالتالي نحتاج لترشيد الاستهلاك وضمان التوزيع العادل للمياه بين المحافظات".
وفي ما يتعلق بمسؤولية تركيا عن الأزمة، أوضح عبد الله أن "هناك حاجة الى ترك الاعتماد على أنظمة الري القديمة مثل الري السيحي، الذي يتسبب بهدر كبير"، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن "هذا لا يمنح تركيا أي ذريعة لحرمان العراق من حصته المائية العادلة"، مضيفًا "نحن نطالب بحقوقنا المائية، ونتحمّل مسؤوليتنا في طريقة استخدامها".
ووصف عبد الله الصيف الحالي بأنه "سيكون قاسياً جداً"، استنادًا إلى معطيات وزارة الموارد المائية وتحذيرات الخبراء، داعيًا الكتل السياسية إلى "رفع درجة اهتمامها بالملف المائي والتعامل معه كملف استراتيجي يرتبط بالأمن القومي والغذائي".
وأكد عبد الله أن "ما نحتاجه هو حزمة متكاملة من الإجراءات، بمشاركة جميع الأطراف: الحكومة، الوزارات المعنية، المواطنين، بل وحتى الشركاء الإقليميين"، لافتًا إلى أن "المشكلة تمس حياة الإنسان مباشرة، وأي إهمال لها سيكون مكلفًا".
وحذّر عبد الله من أن "التهديد المائي ممنهج"، ويخدم أجندات تسعى إلى فرض خيارات اقتصادية وزراعية غير مستقلة على العراق، قائلاً: "ما يحصل ليس غفلة، بل سياسة تهدف إلى إضعاف الزراعة العراقية وتحويلنا إلى سوق استهلاكي تابع في معادلة السوق الحر، ونحن أضعف حلقاته".
الوزارة تستنجد بالمياه الجوفية
من جهتها، أعلنت وزارة الموارد المائية أن المساحات المزروعة للخطة الصيفية الخاصة بالعام الحالي ستعتمد بالكامل وللمرة الأولى في تاريخ البلاد على المياه الجوفية.
وأوضح ميثم علي خضير، مدير عام الهيئة العامة للمياه الجوفية بالوزارة، أن الخطة الزراعية للموسم الصيفي المقبل ستعتمد حصراً على المياه الجوفية، بعد تخصيص 50 ألف بئر ضمن بغداد والمحافظات كافة عدا إقليم كردستان.
وأشار خضير إلى أن محاصيل ستراتيجية، أبرزها الشلب، تم منع زراعتها هذا العام بسبب شح المياه، باستثناء مساحة لا تتجاوز الألف دونم ضمن محافظتي النجف والديوانية، بهدف توفير بذور صنفي العنبر والياسمين، اللذين يعتمدان وسائل الري الحديثة.
وأكد أن الخزين المائي سيخصص لمشاريع مياه الشرب والاستخدامات البشرية ولسقي البساتين والخضر، مشيرًا إلى أن التغيرات المناخية وقلة الواردات من دول الجوار، إضافة إلى سقي الحنطة من الآبار الشتاء الماضي، فرضت ضغوطًا كبيرة على الخزانات الجوفية، التي تنقسم إلى نوعين: متجددة (في محافظات ميسان وواسط وديالى وصلاح الدين)، وغير متجددة (في الأنبار وكربلاء والنجف والمثنى).
وكشف خضير عن تثبيت أجهزة مراقبة إلكترونية على الخزانات الرئيسية لمتابعة انخفاض مناسيب المياه، وتحديد المناطق التي يمكن استثمارها، مؤكداً أن التعليمات الوزارية شددت على عدم التجاوز على مناسيب الخزانات، مع تشكيل لجان قانونية لاتخاذ إجراءات رادعة بحق المخالفين.
وأضاف أن هناك خططاً لزيادة أعداد سدود حصاد المياه في المناطق الصحراوية لتغذية الخزانات الجوفية صناعياً، مشيرًا إلى وجود 16 سداً في صحراء الأنبار بطاقة خزن تتراوح بين ثلاثة إلى عشرة ملايين متر مكعب، تسهم في توطين المجتمعات الرعوية وتقليل الحاجة إلى الآبار.
وتشير تقديرات وزارة الموارد المائية إلى أن كميات المياه الجوفية المتجددة سنوياً تتراوح بين 1.2 و1.8 مليار متر مكعب، في حين تذهب دراسات أخرى إلى أنها قد تصل إلى 4.8 مليار متر مكعب.
ومع ذلك، تؤكد التقارير الرسمية أن هذه الموارد تواجه تدهورًا نوعيًا وارتفاعًا في الملوحة، إلى جانب انخفاض مناسيبها بين 1 إلى 5 أمتار خلال السنوات الـ15 الأخيرة.
يذكر أن أكثر من 40 ألف بئر غير مرخص قد تم حفرها في البلاد تحت ضغوط إدارية وسياسية، بعيداً عن الضوابط الفنية، ما يزيد من احتمالات الاستنزاف الكامل للمياه الجوفية.
وفي ظل استمرار سياسات الجوار المائي المجحفة، وبناء تركيا لسلسلة سدود على نهري دجلة والفرات، وتغيير إيران لمجاري أكثر من 42 نهراً ورافداً كانت تصب في العراق، تتفاقم الأزمة، في وقت لا يتجاوز فيه الخزين المائي الحالي 10 مليارات متر مكعب، مقارنةً باحتياج سنوي يبلغ 50 إلى 60 مليار متر مكعب.
ومع تصاعد التهديدات، يحذر مختصون من أن استمرار الوضع على ما هو عليه قد يؤدي إلى جفاف نهري دجلة والفرات بحلول عام 2040، إن لم يتم التحرك فورًا لضمان حصة عادلة للعراق وتنفيذ خطط مائية استراتيجية.
وفي ضوء هذه المعطيات، يبدو أن صيف 2025 مرشح ليكون الأصعب في تاريخ العراق المائي، في ظل صمت رسمي مريب وتأخر في الإجراءات الجادة، ليبقى السؤال المُلِحّ: متى نتحرك قبل أن يتحول العطش من خطر محتمل إلى واقع مرير؟