برغم تراكم الأزمات الاقتصادية وتزايد الضغوط المالية على الدولة، لا يزال الفساد المالي والإداري، واحدا من أبرز التحديات التي تواجه الدولة في ظل هيمنة المتنفذين على مفاصل الدولة، وغياب الإصلاحات الحقيقية.
وتتواصل تحذيرات محلية ودولية من خطورة استمرار هذا الواقع، خصوصًا مع تصاعد الإنفاق العام وتراجع مستويات الشفافية والمساءلة.
وبرغم بعض الخطوات الإجرائية التي اتُّخذت مؤخرًا، فإن التحديات البنيوية في السياسة المالية والنقدية لا تزال تمثل بيئة خصبة لإعادة إنتاج الفساد بأشكال جديدة.
عام مليء بالتحديات
وحذّر صندوق النقد الدولي (IMF) من أن العراق سيواجه عاماً مليئاً بالتحديات الاقتصادية، بالتزامن مع الارتفاع المستمر في النفقات على الرواتب وشراء الطاقة، حيث يُهدر 55 في المائة من كهربائه في وقت ما زال فيه الفساد عقبة امام تحقيق النمو.
وقال بيان للصندوق، إنّ "مكافحةَ الفساد ونقاط الضعف في الحوكمة أمر لا مفرَّ منه، وذلك لأجل دعم التنمية الاقتصادية". فيما عدّ "الخطوات المتخذة في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد ورفع كفاءتها، والتحسينات في المؤشرات والأرقام القياسية لإدراك الفساد، تطورات إيجابية في هذا المجال".
ولفت البيان الى انه برغم ذلك ما زال الفساد يشكل عقبة كبيرة في تحقيق النمو. فيما شدد على اهمية "تعزيز اطر المساءلة لتشغيل الشركات المملوكة للدولة، والشركات الخاصة في قطاعات النفط والكهرباء والتشييد".
ودعا الى إعطاء "الأولوية للامتثال الشامل لمعايير مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية، وسنّ قانون الشفافية والحصول على المعلومات"، مشيرا الى ان "مواءمةَ الأُطر القانونية لمكافحة الفساد مع المواثيق الدولية والممارسات الفُضلى، وتعزيز استقلال القضاء، مسألتان أساسيتان للإنفاذ الفعال للقوانين، ولحماية الحقوق الاقتصادية".
ورهن تضاعف نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي المحتمل تحقيقه على المدى المتوسط بـ"تنفيذ مجموعة شاملة من الإصلاحات، التي تشمل سوقَ العمل، وتنظيم أنشطة الأعمال، والقطاع المالي والحوكمة".
اصلاح المنظومة القانونية
في هذا الشأن، قال الخبير في مجال مكافحة الفساد سعيد ياسين، إن العراق يشهد تحسناً في بعض الجوانب المرتبطة بالسياسة النقدية، خصوصاً ما يتعلق بامتثال البنك المركزي للمعايير الدولية، إلا أن الفساد لا يزال متجذراً نتيجة اختلالات في السياسة المالية، وغياب البيئة القانونية الرادعة، واستمرار استغلال النفوذ السياسي.
وأضاف ياسين في حديث لـ "طريق الشعب"، أن السياسة النقدية العراقية اتخذت مسارات إصلاحية لتأهيل القطاع المصرفي، وضبط التحويلات المالية، والحد من عمليات غسل الأموال، مشيراً إلى أن العراق خرج مؤخراً من "المنطقة الرمادية" وفق تقييمات دولية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتابع ياسين أن “البنك المركزي شرع بخطوات لتقييم المصارف المحلية، ودمج الأهلية منها، وفرض إجراءات رقابية، حتى لو أثرت هذه الإجراءات بشكل مباشر على المواطن العادي، مثل القيود المفروضة في قطاع العقارات”.
وفي ما يتعلق بالسياسة المالية، أبدى ياسين العديد من الملاحظات قائلاً: “لا تزال العقود والمشتريات الحكومية تتم بمعزل عن المعايير الدولية، وهو ما يتسبب بتضخم الأسعار التخمينية، ويخلق بيئة مواتية لغسل الأموال وإعادة تدويرها من أموال فاسدة إلى أموال نظيفة”.
واشار الى ان جزءا كبيرا من الفساد سببه تمتع بعض المسؤولين الحكوميين بسلطة الإحالة المباشرة للعقود دون منافسة حقيقية، ودون الاعتماد على معايير الكفاءة أو الخبرة.
ونصح ياسين بـ"إصلاح المنظومة القانونية التي تنظم العقود الحكومية، لأن البيئة الحالية تسمح بتنفيذ مشاريع رديئة الجودة تُهدر الزمن والموارد، ما يشكل تحدياً حقيقياً أمام التنمية المستدامة".
كما دعا إلى ايجاد سلسلة من الإجراءات الإصلاحية، بينها تشريع قانون جديد للعقوبات يتلاءم مع المتغيرات الراهنة، قائلاً ان "قانون العقوبات الحالي، الصادر عام 1969، بات قاصراً عن معالجة الجرائم الحديثة المرتبطة بالفساد والنفوذ السياسي، وهناك فجوات قانونية تتيح تمرير سلوكيات غير مُجرّمة حتى الآن".
وشدد على ضرورة توفير بيئة قانونية واقتصادية آمنة تُمكّن شركات القطاع الخاص من المشاركة الفعالة في مشاريع التنمية، وإنشاء المصانع، والمناطق الصناعية.
وأشار إلى أن هناك خطوات حكومية بدأت فعلاً، مثل مشروع المدن الصناعية والمناطق التجارية، لكنها بحاجة إلى دعم تشريعي ومؤسساتي أكبر.
واختتم ياسين قوله: "لكي تكون الإجراءات المتخذة فعالة، لا بد من تعزيز الشفافية عبر نشر المعلومات بشكل استباقي، وتشريع قانون حق الاطلاع على المعلومات، ليكون الإعلام والمجتمع شريكين فاعلين في مراقبة الأداء العام ومكافحة الفساد”
الفساد يقوّض الاستقرار المالي
من جهته، أكد الخبير الاقتصادي باسم جميل أنطوان أن استمرار الفساد في مؤسسات الدولة العراقية يشكل أحد أخطر التحديات التي تعيق جهود التنمية وتُربك استقرار الموازنات العامة، داعيًا إلى إصلاح جذري في منظومتي الرقابة والمحاسبة.
وقال أنطوان إن “الفساد لم يعد مجرد ظاهرة إدارية أو مالية، بل أصبح عاملًا مُعطِّلًا لمسار الدولة التنموي، حيث تُصرف الأموال الطائلة على مشاريع يفترض أن تنهض بالبنية التحتية والخدمات، دون أن تقابلها كشوفات أو تقارير إنجاز واضحة، ما يفتح الباب أمام الهدر والتلاعب”.
وأضاف أن “برنامج ملاحظات صندوق النقد الدولي يركّز على أهمية ضبط الإيرادات والنفقات، بوصفها أساسًا لإصلاح الاقتصاد، إلا أن استمرار الفساد يفرغ هذه الجهود من مضمونها ويجعل من الصعب تحقيق أي تقدم ملموس”.
وتابع أن غياب الشفافية في إدارة المال العام، وتراكم المخالفات دون محاسبة، يؤدي إلى تقويض الثقة بين المواطن والدولة، ويُضعف قدرة الحكومة على تمويل مشاريع استراتيجية تمس حياة الناس.
كما شدد على أهمية تقديم الحسابات الختامية للموازنات العامة في مواعيدها القانونية، واصفًا هذا الإجراء بأنه “ركن أساسي في أي نظام مالي سليم، وغيابه يعني تغييب أدوات الرقابة البرلمانية والمجتمعية، ويمنح الفساد بيئة خصبة للتمدد”.
ودعا أنطوان الجهات المسؤولة، لاسيما البرلمان وهيئات الرقابة المالية، إلى أداء دورها بفعالية أكبر في فتح ملفات الفساد الكبرى، وإحالة المتورطين إلى القضاء، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ولخّص القول بانه "لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية ما لم يتم قطع دابر الفساد، ووضع أسس قانونية ومؤسساتية صارمة تُعيد للدولة هيبتها، وتُعيد توجيه المال العام نحو ما يخدم المواطن ويصون المستقبل الاقتصادي للعراق".
البيئة الحاضنة للفساد
الى ذلك، اكد الخبير المالي والمصرفي مصطفى حنتوش، ان الاعتماد المفرط على النفط في العراق لم يكن نتيجة استراتيجية اقتصادية واضحة، بل جاء نتيجة تراكم طويل لواقع اقتصادي هش، وبيئة استثمارية داخلية طاردة، وقطاعات إنتاجية شبه منهارة، في ظل غياب حقيقي لتطوير الاقتصاد منذ عقود.
وقال حنتوش في حديث لـ "طريق الشعب"، ان "الملكية في العراق تكاد تكون حكراً على الدولة، وهذا سلاح ذو حدين. فالدولة تمتلك كل شيء تقريبًا، لكن من دون تنظيم فعّال أو سياسات اقتصادية واضحة ورشيدة، مما حوّل كل الموارد إلى ممتلكات حكومية تُدار من قبل مجموعة -محدودة ومعينة من الموظفين، ما أدى إلى تغييب القطاع الخاص بشكل شبه كامل".
واضاف أن "تركز السلطة الاقتصادية بيد الدولة التي تدار من قبل نخب محددة، وغياب الشراكة مع القطاع الخاص، مهدا الطريق أمام تفشي الفساد وخلق بيئة حاضنة للفساد، وتحوله إلى ظاهرة طبيعية في بنية النظام الاقتصادي".
وتابع، ان "لا توجد إرادة حقيقية لتمكين القطاع الخاص، لأن مراكز القرار تحتكر السلطة والموارد، وليس من مصلحتها فتح المجال أمام الآخرين"، متسائلاً "لماذا يسمحون للقطاع الخاص بالمشاركة وهم يحتكرون القرار؟".
وشدّد الخبير على أن "الإصلاح الاقتصادي في العراق يتطلب مراجعة جذرية وشاملة، تبدأ بتبنّي رؤية استراتيجية تضع تمكين القطاع الخاص في صلب أولوياتها، مروراً بإصلاح الجهاز الرقابي، وانتهاءً بتعزيز آليات مكافحة الفساد".
وخلص الى ان "ما نحتاجه اليوم ليس مجرد إجراءات إصلاحية متفرقة. انما الفساد أصبح مترسخًا لأن الملكية تدار من قبله أو من قبل جهات نافذة، وهذا يتطلب ثورة حقيقية في التفكير الاقتصادي ونمط إدارة الدولة".