أعادت أزمة تأخير إقرار جداول موازنة 2025، واحدة من أكثر المعضلات البنيوية في الإدارة المالية للدولة العراقية، الى الواجهة، كون ذلك تسبب في تعطيل تنفيذ مئات المشاريع وتجميد صرف التخصيصات للمحافظات والمؤسسات ومستحقات الموظفين وغيرها.
ويبرر التاخير بأسباب فنية وإجرائية ومنعاً لاستغلالها مع اقتراب موعد الانتخابات، لكن مراقبين عدوا كل هذه الذرائع "واهية وتعكس ضعفاً وصراعاً بين الكتل السياسية المتنفذة".
وتوقعوا ان يكون هناك "توظيف سياسي" للموازنة في الصراع بين تلك القوى، لكن يبقى السؤال الاهم: ما جدوى الموازنة الثلاثية إذا كانت تُدار بهذه الطريقة المرتبكة؟
الموازنة انتهت والبرلمان معطل
في هذا الصدد، أكدت اللجنة المالية في البرلمان، أن جداول موازنة سنة 2025 أصبحت من الماضي.
وقال عضو اللجنة النائب مصطفى الكرعاوي، في تصريح تابعته "طريق الشعب"، إن "الحكومة منذ البداية لم تكن لديها أي جدية في إرسال جداول موازنة سنة 2025 إلى البرلمان لغرض التصويت عليها، وذلك بسبب عدم وجود أموال لديها لتمويل هذه الموازنة وصرفها على المشاريع وغيرها، خاصة انها لم تطلق أموال موازنة 2023 و2024 حتى الآن بشكل كامل، بسبب الازمة المالية".
وأوضح أن "مجلس النواب معطل منذ أشهر ولا نعتقد أنه سيلتئم في ما تبقى من عمره الدستوري، ولهذا يمكن القول ان جداول موازنة سنة 2025 أصبحت من الماضي، ولن يتم التصويت عليها، وستحرص الحكومة على تغطية رواتب الموظفين فحسب خلال الأشهر المقبلة".
وقبل أسبوعين، أكد عضو اللجنة المالية في البرلمان جمال كوجر، أن "الحكومة ليست لديها أي نية لإرسال جداول موازنة سنة 2025 إلى مجلس النواب لغرض التصويت عليها، وذلك بسبب الأزمة المالية التي تمر بها وقلة السيولة"، مبيناً أنه "مع انخفاض أسعار النفط زاد العجز بشكل كبير في هذه الموازنة".
وقال إن الحكومة "تعاني من نقص في الأموال، لهذا هي حتى الآن لم تكمل الصرف المالي المخصص ضمن موازنة سنة 2023 ولا سنة 2024، وبالتالي فانها لا تحتاج إلى جداول جديدة، طالما لم تستطع تغطية التخصيصات المالية السابقة بسبب نقص السيولة".
ورجح كوجر "سيبقى الوضع على ما هو عليه لحين انتخابات مجلس النواب وتشكيل حكومة جديدة".
من جانبه، انتقد عضو اللجنة القانونية النيابية عارف الحمامي، "تأخر الحكومة في إرسال جداول الموازنة العامة إلى البرلمان"، محذراً من "الآثار الاقتصادية السلبية التي قد تترتب على عدم التصويت على هذه الجداول"، مطالباً الحكومة بـ"توضيح أسباب هذا التأخير وإحالة الجداول إلى البرلمان بأسرع وقت".
تهديد مباشر للوضع السياسي
وفي السياق، ذاته قال المراقب للشأن السياسي باسل الكاظمي، إن “تأخير إرسال مشروع قانون الموازنة إلى مجلس النواب لا يمكن تبريره بالاستعداد للانتخابات أو بأي حجج سياسية أخرى، لأن الموازنة تتعلق بالحياة العامة وبرواتب الموظفين والمتقاعدين وتنفيذ المشاريع الخدمية والتنموية، وأي تأخير في إقرارها يُعد تهديدًا مباشرًا للوضع الاقتصادي والمعيشي في البلاد”.
وأضاف الكاظمي في حديث لـ"طريق الشعب"، أن “التبريرات الخاصة بعدم إرسال الموازنة، مثل قرب الانتخابات، هي ذرائع واهية سيما ان هناك الكثير من الوسائل والاليات التي تخدم هذا الغرض، ولكنها تبريرات تخفي وراءها صراعات أعمق بين القوى السياسية".
وقال: " لا اعتقد ان هذه المعلومات صحيحة. لانه لا يجوز التعامل مع ملف الموازنة بهده الطريقة غير المسؤولة، لا سيما ان هناك جهات رقابية مسؤولة عن مراقبة اليات وابواب وطريقة الصرف".
وأشار إلى أن "هناك معلومات تتحدث عن محاولات من بعض الأطراف السياسية للاستفادة من التخصيصات في الدعاية الانتخابية".
وأكد الكاظمي أن “غياب الانسجام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وانعدام لغة الحوار بينهما، هو السبب الحقيقي وراء هذا التعطيل، وليس مسألة الانتخابات كما يُروَّج. ولو كانت هناك جدية في العمل المؤسسي، لكان من حق البرلمان أن يُلزم الحكومة بإرسال الموازنة خلال فترة زمنية محددة”.
واردف الكاظمي كلامه ان “الحديث عن الخشية من استغلال الموازنة في أغراض انتخابية لا يصمد أمام الواقع، فالحكومة الحالية، التي أعلن رئيسها عن ائتلاف انتخابي مع بعض الوزراء والنواب والمحافظين، تحاول تعزيز حضورها السياسي، وهي مستمرة في الإنفاق على قدم وساق، بينما تصدر أزمة الضائقة المالية إلى الشارع".
وخلص الى القول: "إذا كانت هناك رغبة حقيقية بالإصلاح، فيجب ان تكون البداية من رئيس الوزراء نفسه، الذي يتردد بأنه يستغل مؤسسات الدولة في حملته الانتخابية"، مردفا أن "استغلال موارد الدولة لأغراض انتخابية أصبح نهجاً سائداً وليس استثناءً”.
الموازنة الثلاثية "عديمة الجدوى"
وفي سياق متصل، قال المحلل الاقتصادي حسنين تحسين، إن “الموازنة الثلاثية، وعلى الرغم من أنها طُرحت كآلية لتبسيط الإجراءات المالية وتفادي تعطيلها سنويًا، لم تُحقق الفائدة المرجوة منها، وذلك لعدم إقرار جداولها التفصيلية حتى الآن”.
وأضاف في حديثه لـ"طريق الشعب"، أن “المشكلة الحقيقية لا تكمن في قانون الموازنة بحد ذاته، بل في الجداول الملحقة به، حيث تحدث عادة الخلافات داخل مجلس النواب، نتيجة السعي لإدخال إضافات تخدم مصالح بعض القوى السياسية، أو تمرير قرارات خاصة، ما يؤدي إلى عرقلة إقرار الجداول”.
وأشار تحسين إلى أن “عدم إرسال الحكومة لجداول الموازنة حتى الآن إلى البرلمان، يعني أن موازنة 2025 لا تزال غير مفعّلة، ولن تُنفذ إلا بعد إرسال الجداول، ومناقشتها، والتصويت عليها داخل مجلس النواب”.
ولفت إلى أن “الظرف السياسي الراهن يزيد الأمر تعقيدًا، فالعراق مقبل على انتخابات برلمانية، ومع اقتراب موعدها، يصبح من الصعب عقد جلسات منتظمة لمجلس النواب، الأمر الذي يعرقل عملية إقرار الجداول حتى في حال إرسالها من قبل الحكومة الى البرلمان”.
أضحى من الواضح أن الوقت قد تأخر لإقرار جداول موازنة عام 2025، في ظل استمرار الصرف استناداً إلى قرارات حكومية، ما يثير تساؤلات مشروعة حول الجهة الرقابية المسؤولة عن تدقيق أوجه الصرف وضمان شفافيتها. ويستحضر هذا الواقع الغامض ما جرى مع موازنة عام 2014، التي لا يزال مصيرها مجهولاً حتى الآن.