اخر الاخبار

يعيش العراق واحدة من أشد أزماته المالية في السنوات الأخيرة، وسط تفاقم واضح لأزمة السيولة المالية التي بدأت تلقي بظلالها على مفاصل الدولة ومصالح المواطنين. ففي الوقت الذي تعتمد فيه الموازنة العامة بشكل شبه كلي على الإيرادات النفطية، باتت تقلبات السوق العالمية تشكل تهديداً مباشراً للاستقرار المالي في البلاد.

وتزداد الأزمة تعقيداً مع تراجع ثقة المواطنين بالمصارف المحلية، وارتفاع مستويات السحب النقدي، إلى جانب تنامي الدين الداخلي بوتيرة مقلقة. هذا الواقع أسفر عن تأخر دفع الرواتب، وتجميد العديد من المشاريع التنموية، ما ينذر بانكماش اقتصادي وشيك، في ظل غياب خطط فاعلة لمعالجة الخلل الهيكلي في النظام المالي والاقتصادي.

ومع استمرار غياب التنوع في مصادر الدخل، وضعف أدوات الرقابة والإصلاح، تبقى أزمة السيولة مرشحة للتصاعد، مهددة بمزيد من التبعات الاجتماعية والاقتصادية، ما لم تُتخذ خطوات جدية وعاجلة لإعادة التوازن والاستقرار للسياسات المالية في العراق.

ما أسباب الازمة؟

في هذا الشأن، قال الباحث في الشأن المالي والمصرفي مصطفى حنتوش، إن أبرز العوامل التي أدت إلى أزمة السيولة في العراق، هو عدم القدرة على توفير الدينار العراقي مقابل الدولار، دون اللجوء إلى طباعة كميات كبيرة من العملة تؤدي إلى التضخم.

وأضاف، أن السبب في ذلك "يعود إلى تهالك النظام المصرفي العراقي وضعف سياسات البنك المركزي، الذي عجز عن استرجاع الكتلة النقدية الكبيرة الموجودة خارج النظام المصرفي. فقد طُبعت نحو 102 تريليون دينار، في حين أن ما يقارب 88 تريليون دينار منها لا تزال متداولة خارج الجهاز المصرفي، ولا يتبقى في النظام شهريًا سوى 14 تريليون دينار فقط".

وأوضح حنتوش في حديث لـ"طريق الشعب"، أن "النظام المصرفي بحاجة إلى تطوير معاييره وآلياته، بما يمكنه من جذب الكتلة النقدية على شكل ودائع، وإعادة ضخها في السوق لدعم الاقتصاد الوطني".

وأشار  إلى أن "ضعف جباية الدولة من المصادر غير النفطية يُعد عاملًا إضافيًا في هذه الأزمة، إذ لا تحقق الدولة إيرادات فعلية من الجباية سوى بعض الرسوم البسيطة مثل البنزين والكهرباء"، مؤكدًا أن هذا الملف بحاجة إلى معالجة جادة.

وتابع ان “النفط مورد استراتيجي يشكل 90 في المائة من موازنة الدولة، إلا أن الاعتماد عليه وحده في سوق عالمي متقلب خلق صعوبات كبيرة أثرت حتى على المشاريع الاستثمارية".

وشدد على ضرورة "تفعيل اقتصاديات العراق عبر استثمار جزء من إيرادات النفط في بناء بنية تحتية متكاملة، وإنشاء مدن صناعية وأسواق شعبية، وتحريك القطاعات الاقتصادية والتجارية والسياحية، بما يضمن تنويع الموارد مستقبلًا”.

وأكد حنتوش، أن أزمة السيولة "انعكست سلبًا على المشاريع الاستثمارية"، محذرًا من أنه في حال تراجع أسعار النفط مستقبلًا، فإن العراق سيكون أمام أزمة إيرادات فعلية، ما يهدد المشاريع الاستثمارية.

وزاد بالقول: “أما الرواتب، فلا أعتقد أنها ستكون مضمونة الدفع بشكل مؤكد”، مشيرا الى ان "البنك المركزي يمر بأزمة سياسات نقدية حقيقية، بل إن معظم سياساته تعاني من شبه انهيار. هناك مشكلات واضحة في سياسة الحوالات، وغياب لسياسة فاعلة في الودائع، إلى جانب عدم وجود سياسة الإقراض، برغم وجود مشاريع كثيرة تستحق التمويل. كما أن سياسة الاستثمار شبه غائبة، وبالنتيجة فإن استثمارات المصارف تكاد تكون معدومة".

وخلص الى القول: ان "المشكلة ليست مستعصية، لكنها تكمن في طبيعة تفكير البنك المركزي الذي يحتاج إلى مراجعة شاملة لسياساته وتوجهاته”.

ابرز التأثيرات

وتتجلى تأثيرات ازمة السيولة بوضوح في العجز  داخل الموازنة بحسب ما افصح عنه المدير العام السابق في البنك المركزي العراقي محمود داغر، الذي اكد ان العجز الحاصل بموازنة البلاد ادى إلى اصدار وزارة المالية سندات بقيمة 3 ترليونات دينار، للحصول على سيولة نقدية لتغطية نفقاتها.

واضاف انه "نظرا لصعوبة تسويق السندات فإنه جرى رفع الفائدة للسندات وتسويقها عن طريق المصارف هذه المرة لما تمتلكه الاخيرة من سيولة مالية وتفضيلها لاوراق مالية مربحة بلا مخاطر مثل السندات الحكومية". وتوقع داغر أن "تستقطب هذه الخطوة المصارف، نظراً لتقارب مستويات الفائدة المعروضة مع العوائد المحققة من الأنشطة الأخرى".

ضرورة تبني استراتيجيات شاملة

من جهته، اكد المراقب للشأن الاقتصادي أحمد عبد ربه، إن العراق يواجه أزمة سيولة نقدية معقدة ناتجة عن تداخل عدة عوامل اقتصادية وسياسية، في مقدمتها الاعتماد المفرط على الإيرادات النفطية.

وبيّن عبد ربه في حديثه لـ"طريق الشعب"، أنّ "النفط يشكل ما نسبته نحو 90 في المائة من إيرادات الدولة، ما يجعل الاقتصاد الوطني هشا ومعرضا لتقلبات أسعار النفط العالمية. وأي تراجع في الأسعار يؤدي إلى انخفاض حاد في الإيرادات العامة، وبالتالي نقص السيولة اللازمة لتمويل الإنفاق الحكومي".

وأضاف قائلاً أن "العقوبات الدولية المفروضة على بعض المصارف العراقية، بعد اتهامها بخرق قواعد تحويل الدولار، ساهمت أيضًا في تعميق الأزمة، إذ دفعت هذه الإجراءات عددًا كبيرًا من المواطنين إلى سحب ودائعهم من المصارف خشية تجميدها، وهو ما أدى إلى مزيد من التراجع في حجم السيولة المتوفرة داخل النظام المصرفي".

وأوضح عبد ربه أن هناك "زيادة مقلقة في حجم الدين الداخلي، حيث بلغ نحو 80 تريليون دينار (ما يعادل 61 مليار دولار) خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، ما يفاقم الأعباء المالية على الحكومة ويُضعف قدرتها على توفير السيولة لتغطية النفقات الأساسية".

وأشار إلى أن أزمة السيولة "انعكست بشكل مباشر على حياة المواطنين، حيث تسببت في تقييد قدرة الحكومة على تمويل المشاريع، الأمر الذي يعيق النمو الاقتصادي ويسهم في ارتفاع معدلات البطالة".

وشدد عبد ربه على أن "معالجة أزمة السيولة تتطلب تبني استراتيجيات شاملة، تشمل تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط، وتعزيز الشفافية المالية، وتحسين إدارة السياسات المالية والنقدية، لضمان استقرار الاقتصاد الوطني والتقليل من المخاطر المستقبلية".